مصطفى القرة داغي يكتب | خط غاز نورد ستريم وغلطة ألمانيا

0 321

هل ستستسلم الحكومة الألمانية الى الدعوات المتزايدة لإستئناف تشغيل خط أنابيب غاز نورد ستريم سيء الصيت؟ أم ستمضي بطريقها الذي سلكته في لحظة شُجاعة ومفصلية من تأريخها؟ سؤال مهم، بدأ يتردد في هذه الأيام، بعد أن بدأت بعض الأصوات تتعالى مطالبة بإعادة تشغيل الخط مع إقتراب فصل الشتاء، وزديادة الطلب على مصادر الطاقة. ففي منطقة هالة-سالة تقدم إتحاد الحرفيين برسالة مفتوحة بهذا المعنى إلى المستشار شولتز، هذا الى جانب تصريحات ولفغانغ كوبيكي القيادي في الحزب الديمقراطي الحر، فكلاهما يشتركان في شيء واحد، هو المطالبة بفتح خط غاز نورد ستريم، ولا يمكن إنكار أن نسبة من السكان تساندهم في وجهة نظرهم، لأنها تأمل بهبوط أسعاره وبشتاء غير مُنجَمِد، وهي وجهة نظر مشروعة يُفترض أن تناقش بموضوعية وهدوء، دون إطلاق أحكام جاهزة، من قبيل وصف كوبيكي بمُساعد بوتين، أو مخاطبة الحرفيين للمستشار شولتز في رسالتهم بعبارات عبثية مثل “هل تريد حقاً التضحية ببلدك؟”. مع ذلك، فإن مؤيدي فتح نورد ستريم مخطئون جداً، ولا ينظرون الى أبعد من أنوفهم، ويخدعون أنفسهم على أمل عودة الحياة الطبيعية متناسين عن سذاجة أو عَمد، العواقب بعيدة المدى وإستحالة الوثوق ببوتين، لأن من يغدر مرة سيُكرّرها مَرّات، كما وثقت به المستشارة ميركل قبل سنوات، ولم تنظر الى أبعد من أنفها ومَرّرت خط غاز نورد ستريم، وأوهمت نفسها وشركائها الأوروبيين بإمكانية الوثوق به وإحتواءه، عبر شراكة إقتصادية ستدر عليه المليارات، لإتقاء شره، والتي تبين بأنها كانت خطوة خاطئة وساذجة لا تنم عن ذرة ذكاء، تدفع ألمانيا وأوروبا اليوم ثمنها ألف ضعف، فأول دولة بدأ بوتين بِعَضّها، عبر التصريحات المستفزة والعرقلة المفتعلة لتصدير الغاز، بعد غزوه لأوكرانيا هي ألمانيا، رغم أنها كانت اليد التي رَمَت له أكبر عظمة وهي نورد ستريم 1 و 2.

لفهم ذلك، دعونا نتخيّل السيناريوهات المحتملة لإعادة فتح الخط. الأول يَفتَرِض أن تُصَدّق أن شخص مخادع وغير سوي كبوتين سيَصدُق معك وتوافق على إستمرار الخط وتدعو لذلك، لكن يبقى السؤال هو: هل تضمن أنه لن يرفض أو يوافق بشروط تُذِلك، لأنك حينها ستكون في موقف سخيف لا تحسد عليه. أما الثاني فيفترض أن تقوم روسيا فعلاً بتسليم غاز إضافي عبر نورد ستريم، وحينها طبعاً سيكون لذلك تأثير إيجابي ظاهري يُسهِم بخفض الأسعار، وربما لن تكون هناك حاجة لإجراءات تقشف، لكنه على المدى البعيد أشبه بإعطاء جرعة صغيرة لمدمن مخدرات بحجة أنها الأخيرة! فالعواقب ستظل مدمرة لألمانيا وشركائها الأوروبيين. فإذا إجتازت ألمانيا الخريف والشتاء القادم بالغاز الروسي، بينما صمد شركائها وتجَمّدوا، ستتضرّر مصداقيتها في العالم الغربي، والتي تضررت بالفعل بعد تردّدها سابقاً بتسليم الأسلحة وتفعيل العقوبات. سيكون الأمر أشبه بالقشة التي ستقصم ظهر ألمانيا، لأنه سيُعيد ويُرَسِّخ إعتمادها على روسيا مرة أخرى، وهو أمر تريد ألمانيا التحرر منه فعلاً لأسباب أخلاقية وأمنية. لذا يجب ترسيخ فكرة الإبتعاد عن الغاز الروسي بأسرع ما يمكن، كي تصبح ألمانيا أكثر إستقلالية في قرارها السياسي، وكي لا يستمر تمويل غزو بوتين وجرائم جيشه ضد الشعب الأوكراني من المال الألماني. قد تكون لهكذا قرار عواقب مؤلمة على المدى القصير، وهنا يأتي دور الساسة في تخفيفها أو تجنبها من خلال توفير وتهيئة بدائل لطمأنة الناس وتبديد مخاوفهم، وألمانيا قادرة على ذلك، وقد أثبتته من خلال تجاوزها بنجاح لأزمات كثيرة، آخرها كورونا. وهو ما بدأت به الحكومة الألمانية فعلاً منذ فترة، عبر البدء بخطة توفير لتجنب حدوث نقص بالطاقة في الخريف والشتاء بالتوازي مع البحث عن مُوَرِّدين جدد للغاز، الى جانب تقديم دعم مالي للمواطنين يُعينهم على تحَمّل فرق الأسعار في فواتير الغاز والكهرباء، وأخيراً وليس آخراً خفض ضريبة القيمة المضافة على الغاز من19% الى7% حتى عام 2024. فتح نورد ستريم قد يعني التخلي عن المباديء والقيم بسبب المصالح الاقتصادية قصيرة الأجل، وهو ما تسعى ألمانيا لتجنبه قدر الإمكان.

هنا تبرز حاجة ألمانيا إلى “قيادة” قوية تتخذ قرارات حازمة ومصيرية، ورغم أن البعض لا يزال يشكك بكون المستشار شولتز هو الشخص المناسب لهذه المهمة، إلا أنه قد نجح حتى الآن في تجنيب ألمانيا كوارث متواصلة تكالبت عليها منذ توليه للسلطة، تسبب أسلافه في حدوثها، أو ساهمت قراراتهم قصيرة النظر في التمهيد لها. بالنهاية السيناريو الثاني أكثر إحتمالاً، فأغلب الظن هو أن روسيا لن ترسل المزيد من الغاز عبر نورد ستريم، بدليل ذريعة التوربينات التي يُزعم أنها عاطلة، أو تسريبات الغاز الغير مفسرة للأنابيب الممتدة في بحر البلطيق، فهناك العديد من خطوط الأنابيب السليمة التي يمكن لروسيا أن تُرسِل من خلالها المزيد من الغاز، لكنها لا تفعل لأن بوتين لا يريد ذلك. بدلاً من ذلك قرر أن يستخدم الغاز كسلاح سياسي، وما كان لينجح في ذلك، ولم يكن ليتشجع على غزو أوكرانيا وقبلها جورجيا والقرم والشيشان، لولا سذاجة الساسة الألمان في الحكومات السابقة وسلبية تعاطيهم معه. وهذا هو السبب في أن الحكومة الحالية يجب ألا تستسلم للرغبة الشعبوية المتزايدة، وأن تُغَلِّب المصلحة العامة. “القيادة” هي الكلمة السحرية التي رددها شولتز خلال حملته الإنتخابية، وروج على أنه أهل لها، والآن عليه أن يثبت ذلك.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.