في زمن تعيد فيه الأمم صياغة تموضعها على خارطة الاقتصاد العالمي، وتعيد فيه الدول الكبرى النظر في تحالفاتها ومعادلاتها الاستثمارية، تبرز أهمية الشراكة الاقتصادية بين مصر والسعودية باعتبارها واحدة من الركائز المحورية، التي يمكن أن تسهم في إعادة تشكيل ملامح الاقتصاد العربي، وتحقيق قدر من التوازن والتنمية المستدامة في المنطقة.
استضافة القاهرة لمنتدى الاستثمار المصري السعودي، بمشاركة أكثر من 70 شركة ومؤسسة اقتصادية من البلدين، لم تكن مجرد فعالية تقليدية، تندرج تحت بند العلاقات الثنائية، بل جاءت كترجمة عملية لإرادة سياسية متبادلة، تسعى إلى تعظيم المصالح المشتركة، وتعزيز التكامل الاقتصادي، وإحياء مفهوم “الاستثمار العربي البيني”، الذي طالما ظل حبيس الشعارات.
ما يميز هذا المنتدى تحديدًا هو تنوع المشاركين فيه، من رجال أعمال ومستثمرين إلى ممثلي هيئات حكومية ومؤسسات تمويل، ما يعكس إدراكًا عميقًا لدى الطرفين بأهمية الانتقال من مرحلة التباحث إلى مرحلة التنفيذ، ومن خانة النوايا الطيبة إلى أرض الواقع، حيث تُبنى المصانع، وتُدار المشروعات، وتُخلق فرص العمل.
لكن اللافت في هذه الدورة من المنتدى، أنها لم تأتِ كتحرك معزول، بل جاءت امتدادًا لمسار بدأ قبل عام تقريبًا، حين كان لنا – كمجتمع اقتصادي وإعلامي – السبق في تدشين النسخة الأولى من منتدى الاستثمار المصري السعودي في مارس من العام 2023 بالرياض. تلك النسخة التأسيسية لم تكن مجرد إعلان نوايا، بل كانت خطوة جادة نحو خلق بيئة حوار مستدامة بين المستثمرين في البلدين، ونجحت في وضع اللبنة الأولى لهذا التكتل الاقتصادي الثنائي، الذي نرى ملامحه تتبلور اليوم في القاهرة. وبين الرياض بالأمس والقاهرة اليوم، تثبت التجربة أن التعاون حين تُدعمه رؤية، يُثمر نتائج ملموسة.
إن مصر، بسوقها الضخم ومواردها البشرية الهائلة وموقعها الجغرافي الفريد، تملك من المقومات ما يجعلها جاذبة للاستثمار العربي، خاصة في ظل الجهود المستمرة، لتحسين مناخ الاستثمار، وتحديث التشريعات، وتطوير البنية التحتية. وفي المقابل، تُعد السعودية من أكثر الدول العربية قدرة على ضخ استثمارات استراتيجية طويلة المدى، مدعومة برؤية واضحة هي “رؤية المملكة 2030” التي تسعى إلى تنويع الاقتصاد السعودي وتقليل اعتماده على النفط.
وتاريخيًا، تُعد العلاقات المصرية السعودية أحد أعمدة الاستقرار في المنطقة، بما تحمله من عمق سياسي، وتكامل اقتصادي، وتشابك مجتمعي. فالبلدان يتشاركان في ملفات إقليمية كبرى، من أمن البحر الأحمر إلى استقرار المشرق العربي، وهو ما يُضفي على العلاقات الاقتصادية بُعدًا استراتيجيًا يفوق مجرد التبادل التجاري، أو تنقل رءوس الأموال. أما على صعيد الفرص، فهناك مجالات واعدة للتعاون، من الزراعة والصناعات الغذائية إلى التحول الرقمي والطاقة المتجددة، مرورًا بالسياحة والبنية التحتية والمناطق الاقتصادية الخاصة. وبوجود الإرادة والتخطيط، يمكن أن تتحول هذه الفرص إلى مشروعات ذات أثر تنموي حقيقي.
وعندما تتقاطع هذه القدرات مع تلك الإمكانيات، تولد فرص حقيقية للنمو المشترك، ليس فقط على مستوى الأرقام والمشروعات، بل على مستوى بناء نموذج عربي ناجح في التكامل الاقتصادي. نموذج يُثبت أن رأس المال العربي لا يحتاج دائمًا إلى الهجرة نحو الغرب، بل يمكنه أن يجد في عمقه العربي فرصًا أكثر أمنًا وربحية وجدوى.
ومع ذلك، فإن الطريق إلى هذا النموذج ليس مفروشًا بالورود. فثمة تحديات لا بد من التعامل معها بجدية، من البيروقراطية التي لا تزال تُثقل كاهل المستثمر، إلى الحاجة لتوحيد وتبسيط الإجراءات، وتوفير ضمانات واضحة للاستثمار، وصولًا إلى تعزيز الشفافية وتسهيل انتقال الأموال والخبرات والتكنولوجيا بين البلدين. وهي تحديات لا تقل أهمية عن الفرص المتاحة، بل ربما تُحدد مصير هذا المسار الطموح برمّته.
إن ما يدعو للتفاؤل هو أن المنتدى الأخير لم يكتفِ بعرض الفرص أو تبادل الكلمات، بل شهد جلسات عمل حقيقية، ونقاشات صريحة، ومقترحات عملية، ما يعني أن هناك إصرارًا على تحويل هذه الشراكة إلى واقع حي، وليس مجرد عنوان إعلامي عابر. والمطلوب الآن، هو أن تتحرك الجهات المعنية بسرعة وكفاءة لترجمة هذه المخرجات إلى اتفاقيات ملزمة، وإجراءات ملموسة، ومشروعات قائمة بالفعل.
في النهاية، يمكن القول إن المنتدى ليس نهاية المطاف، بل هو بداية جديدة، وربما لحظة فارقة، تُعيد فيها الدول العربية الكبرى التفكير في أولوياتها، وتستعيد من خلالها زمام المبادرة. وإذا ما نجحت هذه الشراكة بين مصر والسعودية في أن تُقدم نموذجًا فعالًا للتكامل الاقتصادي، فإنها لن تكون مجرد تجربة ثنائية ناجحة، بل ستكون دعوة مفتوحة لبقية الدول العربية كي تلحق بركب التنمية، وتدرك أن الوقت قد حان للاستثمار في الذات، لا في الغير.