أحمد الاشعل يكتب | “سيمون بوليفار”

0

في عصور الظلام، حين تُغلق السماء أبوابها، يظهر رجل لا يشبه زمنه، فيوقظ الأرض من سباتها، ويبعث في الشعوب روحًا جديدة. سيمون بوليفار، هذا الاسم الذي تجاوز الجغرافيا والتاريخ، لم يكن مجرد محرر لأمريكا اللاتينية من الاستعمار الإسباني، بل كان مشروعًا إنسانيًا عابرًا للزمن، ورمزًا خالدًا لفكرة الحرية كحق مقدس، لا تُمنح ولا تُشترى، بل تُنتزع بالنار والكلمة والإرادة.

وُلد بوليفار في كراكاس عام 1783، لعائلة أرستقراطية تملك الأراضي والثروات، لكنه منذ صغره تلمّس جراح الفقراء، وقرأ في عيون العبيد ما يكفي ليثور على طبقته، قبل أن يثور على الإمبراطورية الإسبانية ذاتها. سافر إلى أوروبا شابًا، فتأثر بأفكار الثورة الفرنسية، وتعلّم من نابليون كيف تُقاد الجيوش، ومن فولتير وروسو كيف تُقاد العقول، فعاد إلى بلاده لا كنبيلٍ مترف، بل كقائد اختارته الضرورة، واحتضنته المأساة.

قاد بوليفار معارك التحرير الكبرى التي غيّرت وجه القارة. وفي كل معركة، كان الحلم يكبر، والرؤية تتضح. لم يكن يسعى فقط لتحرير فنزويلا، بل لتوحيد شعوب أمريكا الجنوبية تحت راية واحدة، تؤمن بالعدالة، وتتنفس الكرامة. أسّس “جمهورية كولومبيا الكبرى” لتكون نواة اتحاد قاري، لكن المؤامرات الداخلية والانقسامات الجهوية سرعان ما قوضت الحلم من داخله. وتحوّل المنتصر في ميادين القتال إلى مهزومٍ في دهاليز السياسة.

ورغم كل ذلك، لم يخفت بريق بوليفار. لم يسقط في فخ الانتقام أو الكراهية. كتب في رسائله ونصوصه عن الدولة والعدل والحرية، وكأنه يؤسس لدستورٍ أخلاقي يسبق كل دساتير العالم الثالث. حتى في لحظات خذلانه الأخيرة، وهو مريض في منفاه، قال عبارته الشهيرة: “لقد زرعتُ، ولن أرى الحصاد”. لكنه لم يكن يعلم أن ما زرعه صار غابات من الوعي، وأن تمثاله سيُرفع بعد قرنين في ميادين العواصم، ومنها القاهرة.

في قلب القاهرة، وفي ميدان يحمل اسمه، وتحديدًا أمام تمثاله البرونزي الذي يرمز لعنفوان الحرية، حضرتُ اليوم الاحتفال بالعيد الوطني لفنزويلا، بدعوة كريمة من الصديق العزيز سعادة السفير ويلمار أومار بارينتوس، سفير فنزويلا لدى جمهورية مصر العربية. المناسبة كانت مزدوجة الدلالة: ذكرى توقيع وثيقة استقلال فنزويلا، التي خطها الأحرار عام 1811، ومرور 75 عامًا على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وفنزويلا، تلك العلاقات التي صمدت لعقود، وتحوّلت إلى جسر حقيقي للتقارب الإنساني والثقافي بين شعبين من عالم الجنوب، يجمعهما التاريخ، وتوحدهما القيم.

سيمون بوليفار ليس مجرد صفحة من الماضي، بل حاضرٌ مستمر، ودرسٌ مفتوح لكل من أراد أن يحرّر نفسه قبل أن يحرر وطنه. هو الصوت الذي يُذكّرنا بأن الحرية ليست رفاهية، بل ضرورة، وبأن العدل لا يُمنح من فوق، بل يُنتزع من تحت. وفي زمن تكثر فيه الأصوات المترددة، يبقى بوليفار صوتًا ثابتًا، يقول لنا: “لا تخافوا من التضحيات… فإن الأوطان لا تُبنى بالخوف”.

تحية لفنزويلا وشعبها، وتحية لأرض الكنانة التي احتضنت روح بوليفار في ميدانها، كما احتضنت كل من نادى بالحق في هذا العالم المجنون.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.