أحمد شحيمط يكتب | الجابري وقضية حقوق الإنسان (1)
كتب الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري في التراث والتعليم والثقافة، كتب عن هموم الذات وشروط النهضة بمنظور فلسفي ورؤية نقدية وموضوعية دون أن يكون هاجسه إسقاط الحاضر على الماضي، رغبته كغيره من رواد الفكر العربي يمكن إجمالها في تفكيك بنية العقل العربي، وبنية الثقافة، ومن الأهداف محاولة تغيير العقليات. الجابري مشرح العقل العربي في تجلياته الكبرى: البيان والعرفان والبرهان، وتحليل مستفيض للعقل السياسي والأخلاقي على خطى كبار الفلاسفة في التزامه بالقضايا الكبرى للفلسفة من الوجود والمعرفة والقيم، معبرا دائما عن رغبته في الفهم والتحليل للعوائق والكوابح التي ساهمت في تعطيل التنمية وبناء الإنسان، يعود للتاريخ ويسترشد بالمنهج العلمي، ويقدم الفكرة بنوع من الحذر والاحتياط، وغالبا ما يقول بتواضع إنه يؤرخ لماضي الأشياء والحقائق وليس لحاضرها، التفاف على الأفكار والأحداث ودعوته الدائمة إلى طرح الجمود والاحتكام للعقل والمنطق حتى لا يحاكم الجابري على أفكاره ومواقفه أو يقال عنه ما لم يرغب في قوله أو سكت عنه قصدا وسهوا .
التمس الجابري من الفلسفة مباحثها الكبرى موليا قيمة لابن رشد وفلسفته، ومن التاريخ الرؤية الخلدونية، ومن العلم القراءة الإبستيمولوجية، واليات أخرى كالحفر في ترسبات المعرفة والنبش في الذاكرة على الطريقة الفوكوية إضافة للتجربة العملية في مجال السياسة والعمل الحزبي داخل الاتحاد الاشتراكي، ومختلف الأنشطة الأكاديمية، وما يتعلق بالندوات والمحاضرات. يقارب المفاهيم بالتقريب والتفنيد، ويترك مساحة مهمة للنقد الخاص بالقارئ حتى يلتمس المعنى والحقيقة في دروب التاريخ والواقع معًا. يرغب الجابري في استنبات الديمقراطية في الفكر والسلوك، ويسعى نحو تكريس فلسفة حقوق الإنسان في ثقافتنا بالكشف عن مضامينها المعرفية وخلفياتها الأيديولوجية، يقرب المعنى من ثقافتنا على ضوء ما تمتلك شعوبنا من مفاهيم ذات مضمون مشابه، وما يرمي إليه الجابري الذي خبر المكان ونهل من قيمه، فلا جدوى من الاحتراس والتقوقع أمام الآخر بعيدا عن الصدمة الايجابية، واقتباس ما نراه مفيدا وعمليا. يبدو التأثير الرشدي قائما في محاولة التوفيق بين الحكمة والشريعة أو محاولة من الجابري تقريب الناس والقراء بالتجانس بين عالمية حقوق الإنسان في الغرب، وعالمية الحقوق في المرجعية الإسلامية، ويستشهد على ذلك بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية لكنه يرغب في تأصيل حقوق الإنسان في ثقافتنا بناء على استلهام الديمقراطية أولا والتي يعتبرها الجابري قناعة وليست رغبة، يمكنها أن تكون أداة للعبور والانتقال نحو المدنية والحكم الرشيد، الديمقراطية هنا حق من حقوق الشعوب، وحقوق الإنسان التي نعتبرها كونية وشمولية من خلال مضامينها ومرجعيتها الأصلية في الفكر التعاقدي، لا تعني أنها غائبة في الخطاب الإسلامي لكنها اتخذت أشكالا أخرى في التعبير والقول والإقرار، حقوق الإنسان في الإسلام تستلزم النظر إليها من خلال ثلاث مفاتيح: الكليات، وما تنص عليه أحكام الشريعة من جزئيات، وأسباب النزول، وعندما يرغب الجابري في عملية تأصيل حقوق الإنسان داخل الفكر الإسلامي يشترط العودة للكليات وليس للجزئيات، بمعنى أن الدين جاء لصيانة الحياة وحفظ النفس وما تعنيه الضرورات الخمس .
يناقش الجابري في كتابه ” الديمقراطية وحقوق الإنسان” مجموعة من الحقوق التي يمنحها معنى ويرفعها نحو الأعلى حتى يظهر للقارئ المبادئ العامة والكليات الضرورية التي تشير إليها مقاصد الشريعة الإسلامية من صيانة الحق الطبيعي والحقوق المدنية، ومن قبيل ما يعالجه الجابري برؤية فلسفية كالحرية في الاعتقاد، والحق في المعرفة، والحق في الاختلاف، ومن الحقوق الشمولية هناك الحق في الشورى والمساواة، وحق المستضعفين من الفقراء في أموال الأغنياء، ويعتبر القضية أشبه بصندوق الضمان الاجتماعي، وما يتعلق بالحق في العلاج وتعويض البطالة وحق التقاعد، ويميز بين الردة والحرية، وما يتعلق بالمرتد المحدد بمرجعية الخيانة للوطن وليس بمرجعية حرية الاعتقاد، كذلك المساواة بين الرجل والمرأة، وعندما يزداد الاعتراض من قبل المعترضين على نفي حقوق الإنسان في قيمنا من خلال مجموعة من الحقائق والقضايا الشائكة من قبيل الطلاق والردة والرق والميراث والشهادة يعود الجابري للتذكير مرة أخرى بالفرق بين الكليات والجزئيات، ويدعو إلى الاجتهاد. رصيد الجابري في مجال حقوق الإنسان قليل إلا أنها مساهمة معقولة لإغناء للتفكير في كيفية تأصيلها داخل ثقافتنا لأن الخصوصية لا تنفي الكونية، إنها قاعدة مشتركة في التقاء العالم من خلال مرجعية معينة كالتي تشملها ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هذه الحقوق لا تنفي الدين وتلغيه، بل إن الجابري دافع عن التنوير وقدم مجمل مواقف رواد الفكر التحرري في الغرب وما نسميهم برواد الفكر التعاقدي الذين وضعوا أسس الدولة الحديثة، ومعالم فلسفة حقوق الإنسان، حتى أن الجابري يسوق مثالا من جون لوك الذي وجد في الإنجيل شرطين للخلاص وهما يسوع المنقذ والاعتقاد في الحياة الفاضلة، أما أساس الاجتماع البشري في المجتمع الجديد حسب روسو يؤسسه المبدأ الأخلاقي والقانون الوضعي، هذا يعني أن المرجعية الفكرية للحقوق موجودة في الطبيعة الخاصة بالإنسان، لا تلغي الدين لكن تعري استغلال الدين من قبل الكنيسة .