أحمد عمر النائلي يكتب| الدراسات الاعلامية الكيفية

0

من خلال متابعة البحوث الاعلامية وخاصة رسائل الماجستير والدكتوراة تتبين لنا قلة أو انعدام استخدام البحوث الكيفية النوعية qualitative research في الدراسات الاعلامية والاكتفاء بالبحوث الكمية quantitative research , بالإضافة الى قلة استخدام البحوث التجريبية ، وهنا لا نتحدث عن المفاضلة بين البحث الكمي والبحث الكيفي بقدر ما نتحدث عن إهمال أو تجاوز الباحثين للبحث الكيفي ، والاكتفاء بالكمي .
أعتقد أن أيّة ظاهرة وكما نراها ابستمولوجياً لا يمكن الاحاطة بها بشكل مطلق ، بالتالي لا يمكن أن ندرسها وفق نهج علمي واحد ، و يتضح لنا في هذا السياق ما يراه فيلسوف العلم بول فيرابند في كتابه “” ضد المنهج Against method “” ، بأننا يجب أن نستخدم كل المناهج لمقاربة الظواهر ، خاصة عندما نملك كباحثين تبرير Justification استخدامها ، كما يرى الوضعيون المنطقيون ، دون الالتزام بقدسية منهج واحد .
وأرى هنا ان البحوث الكمية بهذا الاستخدام في بحوث الماجستير أو الدكتوراة أفرزت لنا أعضاء هيئة تدريس جامعيين ليسوا في المستوى العلمي الذي يؤهلهم ليكونوا اساتذة جامعيين ، لان هذه البحوث كانت بالنسبة لهم مجرد اجراءات يتم تنفيذها و ترتيبها دون تفحص كل خطوة و مبرراتها وجدواها العلمية ، و دون الاحاطة بالأرضية المعرفية لمجال البحث (وهو بيت القصيد) ، لذلك أصبحنا نجد صاحب اطروحة علمية في مجال علمي ما بدون معرفة و دراية بالمجال العلمي الذي تتحدث عنه الاطروحة العلمية .
النقطة المهمة الاخرى هي أن الفصل بين الظواهر من حيث التأثير المتبادل لا يمكن تجاوزه واقعياً ؛ لذلك نحن مضطرون الى استخدام الدراسات البينية interdisciplinary لمقاربة الظواهر.
فالباحث الاعلامي الذي يدرس تأثير وسائل التواصل الاجتماعي مثلاً لا يمكن أن يُهمل الجانب النفسي أو العصبي أو الاجتماعي الذي لا يمكن أن تلتفت إليه دراسة كمية تدرس مجرد علاقة بين متغير مستقل وتابع وإهمالها للسياق العام context الذي يتواجد فيه المتغير المستقل والتابع غاية هذه البحوث .
إن البحث الكيفي يتطلب موهبة فردية عالية تقوم على الاستدلال الاستنباطي deduction والاستدلال الاستقرائي induction و الاستدلال الافتراضي abduction بعد جمع المعلومات والآراء واجراء المقابلات المعمّقة وجماعات التحليل Focus groups وايجاد العلاقات من خلال قراءة أدبيات الظاهرة المعنية بالبحث ( التاريخية والحالية) .
وما يقال حول عدم موضوعية البحوث الكيفية ينطبق ذاته على البحوث الكمية ، فإمكانية التحيّز متوفرة فيها أيضا ، ناهيك على أن استخدام التبرير والمنطق كفيلان بأن يقللا تحيّز الباحث .
و كثرة استخدام البحوث الكمية في بحوث الماجستير والدكتوراه مقارنة بالكيفية في العالم ربما يكون نتاج التوجه الرأسمالي الذي فرض نمطاً بحثياً واحداً يستجيب لغاياته الربحية ؟ وهو بحوث السوق والجماهير وهي بحوث في عمومها بحوث كمية ، تستكشف رغبة الجماهير تجاه السلع والخدمات ، فصار التأثير والسيطرة عليها هو هدف و ديدن العملية العلمية ، دون الاهتمام بوضعها تحت اطار ممارسة اعلامية سليمة من الناحية الصحية وبما يخدم التنمية المجتمعية ، والبحوث الكيفية هي أكثر البحوث القادرة على كشف لعبة السلطة ( طرح ميشيل فوكو ) بمعناها الواسع وتحليل خطابها من خلال كشف آلية توظيفها للنظام الاعلامي بما يخدم مصالحها ، فعلى سبيل المثال لا الحصر لماذا لا يستطيع الاعلام أن يخبرنا بصفة مستدامة عن أضرار المشروبات الغازية والسكر المضاف والتدخين و أضرار زيادة نسب الترفيه والاثارة الغرائزية؟ لماذا لا يخبرنا بأن الاحتباس الحراري هو نتاج هذه الرأسمالية؟ لماذا لا يخبرنا بأن ممول الوسيلة الاعلامية هو من يحدد نوع الرسالة ومضمونها ؟ ، لماذا لا يخبرنا بأن الفكر السياسي لا يمكن أن يقف عند اللحظة الليبرالية الغربية وفق طرح فوكوياما ، وأن هناك أنظمة أخري (النظام الصيني مثلاً ) نجحت وستصبح أنظمة مسيطرة super power in the world ؟ , لماذا لم يستطع الاعلام الامريكي التحدًث بصراحة عن اضرار امتلاك السلاح ، رغم الحالات المتعددة للقتل الجماعي ؟؟ .
البحث الكيفي يتطلب الوقت والعمق والقراءة المتفحصة والاحاطة المعرفية بمجال الظاهرة الاعلامية المدروسة ، وهو يدرس الظاهرة في وضعها الحقيقي دون إشعارها بالمراقبة من خلال استبانة أراء المبحوث ، الذي قد يكون غير جادٍ تجاه ملء الاستمارات البحثية ، خاصة إذا كانت طويلة ، ناهيك على أن اسلوب المعاينة الاحصائي ورغم الانجازات العلمية الاحصائية التي وضعت لإنجاحه من خلال وضع المعايير التي تضمن عشوائية Random العينة وصدق تمثيلها للمجتمع ولكنها تظل عينة وليست المجتمع ككل (وهنا تتضح لنا أزمة الاستقراء المطروحة مسبقاً في ابستمولوجيا المعرفة) ، بالإضافة الي ديناميكية تغيّر استجابة المبحوث وفق الحالة النفسية وشعوره أنه تحت الاختبار ، وهذا مايجعل النتائج تتأرجح وتختلف خلال أيام ، ولا ننسى أن بعض البحوث تتأثر بالمرغوبية الاجتماعية ، فمن هو المبحوث الذي سيقول لك أنه لا يحب النظافة الشخصية ؟ أو تلك المرأة التي ستقول لك أنها بشعة ؟ أو …الخ .
المخاوف التي نحملها في عقولنا تجاه استخدام البحوث الكيفية يراها أيضا بعض اساتذة الاعلام في الغرب وليس اساتذة الشرق فقط ، ويحملون ضدها موقف عدائي ، ولكن مع هذا يجب علينا استخدام كلا النوعين من البحوث سواء أكان كمياً أو كيفياً أو المزاوجة بينهما .. ويجب أن نتذكر أن هناك الكثير من جوانب الغموض أو الاستشكالات الكامنة في الظواهر الاعلامية المحيطة بنا تتطلب لدراستها البحث الكيفي أكثر من استخدام البحث الكمي .
وأختم ماقلت بما أخبرني به أحد اعضاء هيئة التدريس بكلية الاعلام . جامعة بنغازي والذي عاد من فرنسا هذا العام أنه عندما تقدم بمقترح اطروحة الدكتوراة في فرنسا اشترط عليه المشرف أن يكون البحث كيفياً لا كمياً ، ربما كان يؤمن بإطروحة فيلسوف العلم كارل بوبر الذي قبل الاستنباط ورفض الاستقراء والبحث الكيفي يميل الى استخدام الاستنباط بجرعات اكثر ، عكس الكمي الذي ينطلق في تفسيره للظاهرة من استقراء النتائج المتاحة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.