إبراهيم العجمي يكتب | سياسات الحكومة النقدية والأزمات المالية

0

سألت أبي رحمه الله ذات مرة، لماذا لا تطبع الدولة النقود وتوزعها على كل المحتاجين بحيث لا يكون هناك فقراء ومساكين، كنت أتسائل وقتها بسذاجة وبراءة الأطفال معا.
شرح لي أبي بأسلوب يفهمه طفل في سني لم يتجاوز العاشرة من عمره كيف يمكن أن تتحول طباعة الأموال دون غطاء نقدي من الذهب والعملات الأجنبية وغيرها من نعمه ظاهرة إلي نقمة مع فقدان العملة لقيمتها. أدركت منذ حينها ما تعنية عملية التضخم دون أن أدرك هذا المصطلح بعد، وصرت أجاوب زملائي في مراحل الدراسية المتقدمة عندما يتساءل أحدهم نفس سؤالي الساذج، بالرغم من عمل والدي طيلة حياته في العلوم والبحث العلمي بين الفيزياء والجيولوجيا والتجارة ولم يدرس الاقتصاد قط، فكان كالكثير من المصريين مدركا ما يعنيه التضخم وما هي تبعياته وانعكاساته المباشرة وغير المباشرة على السوق وبالتالي على اقتصاد الدولة. تمر السنوات وأتذكر سؤال الطفل الساذج عند سماع تصريحات طارق عامر محافظ البنك المركزي السابق وهو يقول ضاحكاً خلال لقاء تلفزيوني شهير أن الدولة تسد عجز الموازنة من خلال طباعة الفلوس وأن الصندوق الدولي هو لا يقل صدمة عن تصريح وزير المالية في لقاء تلفزيوني آخر يجيب بكل هدوء وأريحية عن سؤال ماذا سوف تفعل لسد عجز الموازنةالعامة؟ هستلف تاني، هكذا قال بتلقائية.
تناولت بعض الصحف والمحللين وحتى صفحات التواصل الاجتماعي هذه التصريحات بالنقد اللاذع ولكنها مرت مرور الكرام في ظل سياسة لن يحاسب أحد مع أستمرار هذا الوزير بسياساته المالية حتى اليوم في وقت تعيش فيه مصر أزمات عالمية ومحلية غير مسبوقة تنعكس بشكل مباشر علي الاقتصاد الذي يمس في النهاية كل أسرة مصرية. لن أتحدث هنا عن انعكاس مثل تلك السياسات السلبي وإن كنت أشكر الحكومة على صراحتها من خلال بعض المسؤولين بخصوص الأوضاع ولكن تلك الصراحة التي لن تشفع لهم أبداً تخاذلهم في تنمية موارد الدولة واستثمارها بشكل أمثل في زمان كان من المفترض أن الأقدار قد ضحكت لمصر أخيراً، فمصر اليوم هي أحد أهم بدائل الغاز الروسي لأوروبا ومصر اليوم هي أحد أهم مصدري السلاح في المنطقة وهي نفسها التي تعوض التجارة العالمية من خلال قناة السويس عن تفاقم جفاف قناة بنما، وبالإضافة لكل هذا انتعاش حركة السياحة العالمية بعد ركود فترة جائحة فيروس كورونا العالمي، وكان لمصر التي اعتاد السائحون الاوكران والروس عليها منذ زمن وهي ملاذ آمن ووجهة للكثير منهم. من وجهة نظري أن حكومة صناعة الأزمات لن تكون حكومة حل لها، وخصوصاً بأن هناك ملفات هامة أبرزها الاستثمار الذي تظل حقيبته الوزارية شاغرة بلا وزير ويقوم بدورها المهندس مصطفي مدبولي رئيس مجلس الوزراء الذي هو بالطبع ليس رجلا متخصصا في مجال الاستثمار وهو رجل بناء وتعمير جاء لحقبة كانت المشروعات القومية المصرية والبنية التحتية فيها هي توجه الدولة الرئيسي لجذب الاستثمارات المحلية والاجنبية وتنمية موارد الدولة، ولكن ظلت تلك الحكومة بتعديلاتها المحدودة عاجزة أمام مواكبة التغيرات الاقتصادية العالمية. وفي الختام الإصلاح الاقتصادي يجب أن يأتي علي يد رجاله، فصناع الأزمة لن يكونوا ابداً مصادر حلها هكذا علمتنا التجارب والتاريخ، بالرغم من التفاؤل بتصريحات الدكتورة هالة السعيد وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية، خلال الجلسة العامة لمجلس الشيوخ، بأن الحصول على قروض جديدة لن يكون إلا بشروط مُيسرة ولبعد تنموي كبير، ولكنها تظل خطة الحكومة حول التكيف وسد العجز غامضة بالنسبة لنا حتى الأن. هناك شعور حقيقي في الأوساط السياسية من تيارات مختلفة بالارتياح في تغيير دفة الحكومة التي كانت تنزلق في مستنقع الديون بعد ضغوط كثيرة لنواب المعارضة الفترة الماضية حول ملف الإغراق في القروض، التي لم تستفد الحكومة بأغلبها بعد وكانت تسعى للحصول علي قروض جديدة حتى هيئ لنا أن القروض تحولت بالنسبة للحكومة من وسيلة إلي هدف في حد ذاته.
وأخيراً، مصر اليوم في حاجة حقيقية لرؤية استراتيجية واضحة بعيدة المدى للسياسات النقدية والأقتصادية تعتمد فيها على الاستفادة الأمثل للثروات التي حظي بها الله مصر وشعبها وتنميتها بعيدا عن الفكر التقليدي المنحصر في إعادة إنتاج الأزمة بنفس سياستها البالية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.