إسلام علي شاهين يكتب | بين التعليم والتربية

0

في غمرة الأحداث المؤسفة التي تطفو على سطح مجتمعنا بين الحين والآخر، تبرز قضية محورية تستدعي وقفة تأمل عميقة: الفارق الجوهري بين التعليم والتربية. مؤخرًا، انتشرت وقائع مؤسفة لتحرشات قام بها شباب من مختلف الجامعات، بما في ذلك كليات مرموقة مثل الطب والهندسة والسياسة والاقتصاد. أثارت هذه الحوادث جدلًا واسعًا، لا سيما أن مرتكبيها ينتمون إلى فئة يُفترض أن تكون قدوة في المجتمع.

كما ألاحظنا في تعلقبات البعض علي الحادثة مسنكرين البعض ومحاولين الدفاع عنهم بمقولات أشبه بـ”دول ولاد ناس وفي كليا قمه” او “حرام شباب زي الورد وفي كليات قمه ومستقلبهم هضيع” او غيرها، ونري في الوجه الاخر وجه نظر اخري او ردا من البعض علي اصحاب وجهات النظر الأولي مثل “الحمد لله انهم وقعوا من دلوقت، تخيل دول لو كملوا فب كلياتهم واتخرجوا وبقي في ادبهم ارواح ناس ومصائرهم” واخر يقول”مش متخيل ان دول لولا ربنا كشف سترة عنهم بفضل الشاب اللي وثق الواقعه كانوا هيبقوا فين كمان كام سنه اللي كان هيبقا دكتور وبين اديه ارواح الناس ولا المهندس اللي ممكن يبني او ينتج او غيرة حجات فيها ارواح غيرهم ولا التاني اللي كان ممكن يبقا سفير او دبلوماسي وياخد قرارات تمس مصلحه الناس والبلد”، وعلق اخر عن الحادث والجدال السابق قائلا “مش معنى أنه في طب ولا في هندسة ولا في سياسة واقتصاد أنه محترم… ممكن يكون تربية وسخة ومتحرش عادي” وجاءت هذه العبارة تحمل في طياتها حقيقة مرة: بأن الشهادة الأكاديمية لا تعادل بالضرورة الأخلاق الحميدة.

لطالما قيل لنا “التربية قبل التعليم”، وبالنظر إلى الإسم الرسمي لوزارة “التربية والتعليم” الا يثير تساؤلًا: لماذا تبدأ بالتربية ثم التعليم؟ في الأصل، تأتي “التربية” في الصدارة لأنها الأساس الذي يُبنى عليه كل شيء. بل وحتي كلمة التعليم “Education” في أصلها اللاتيني “educere” لا تعني فقط حشو العقول بالمعلومات، بل تعني “القيادة للخارج” أو “التنمية الشاملة” التي تشمل المعرفة، والمهارات، والقيم، والأخلاق.

حيث إن السؤال حول أولوية التربية على التعليم أو العكس هو في جوهره سؤال عن أولويات المجتمع وقيمه. فكلاهما ضروريان لبناء فرد سوي ومجتمع سليم، ولكن ترتيب الأولويات هو ما يصنع الفارق.

التربية أولا… فالتربية هي الأساس الذي تُبنى عليه شخصية الإنسان. إنها عملية غرس القيم والأخلاق والمبادئ التي تُحدد سلوكه وتعامله مع الآخرين. التربية هي التي تُعلم الإنسان كيف يكون فردًا صالحًا ومواطنًا مسؤولًا، وكيف يُفرق بين الصواب والخطأ. وهي التي تُبنى عليها كل أنواع المعرفة والتحصيل العلمي، فبدونها قد يُصبح العلم أداة للهدم بدلًا من البناء.

ثم التعليم ثانيا… فالتعليم يأتي ليكمل دور التربية، فهو يُزود الفرد بالمعرفة والمهارات اللازمة للتقدم والازدهار في الحياة. التعليم هو الذي يُمكن الإنسان من اكتشاف قدراته وتطويرها، وهو الذي يُفتح له آفاقاً جديدة من الفكر والإبداع. ولكن إذا لم يكن هذا التعليم مُرتبطًا بقيم تربوية راسخة، قد يُصبح مجرد معلومات محشوة في الدماغ، لا تُنتج إلا أفرادًا ذوي شهادات عالية دون أخلاق.

حيث أن التربية والتعليم لسا منفصلين، بل هما وجهان لعملة واحدة؛ فيجب أن تُدمج التربية في كل مراحل التعليم، بدءًا من الأسرة وصولًا إلى المدرسة والجامعة. فالهدف الحقيقي من العملية التعليمية هو تخريج أفراد متعلمين ومُربين في آن واحد وتكون المعادلة متكاملة في النهاية.

ولكن يبدو أننا في سباقنا نحو التحصيل الأكاديمي، أسقطنا سهوًا أو عمدًا أو بعمل أيادي خفية أهم أركان بناء الإنسان: التربية والأخلاق والتنشئة الاجتماعية السليمة.

فما حدث هو أننا استبدلنا هذا المفهوم الشامل بمفهوم ضيق يركز على الدرجات والشهادات، متناسين أن المتعلم الذي يفتقر إلى الأخلاق والقيم هو أشبه بآلة متقدمة بلا بوصلة أخلاقية. لقد أصبح قياسنا للناس يعتمد على شهاداتهم ومراكزهم الاجتماعية، وهذا ما أدى إلى ظهور فئة من “المتعلمين غير الأدمين”… يدعون العلم وما هم بعلماء بل يمكن تشبيهمم بسله معلومات، فالعلم إن لم يذهب اخلاق صاحبه ويدلهُ علي الفضائل والحكمة فليس بلعم وحامله ليس بإنسان يحمل معني الإنسانية بل هو شزمه وإنحدار من أشباه الإنسان.

ولا يقتصر هذا الانحدار على السلوك الفردي فقط، بل يمتد ليشمل نسيج المجتمع ككل للأسف، يتجلي في تدهور الذوق العام والأخلاق في المجتمع؛ فالمحتوى الفني والثقافي أصبح مرآة تعكس هذا الانحطاط. نشهد انحدارًا في مستوى الأفلام والمسلسلات التي أصبحت تروج لأعمال البلطجة والجريمة تحت مسمى “تسليط الضوء” على الواقع، في حين أن الهدف الحقيقي هو الإثارة والربح.
كذلك، أغاني المهرجانات، التي كانت في البداية شكلًا من أشكال العار والتي يعاب من يسمعها الي ان عدوها من الفن الشعبي، فـ تحولت إلى وسيلة لنشر الانحطاط الأخلاقي واللفظي، مسهمة في تدني الذوق العام.
هذا المحتوى البصري والسمعي يشكل بيئة سلبية تؤثر على وعي الشباب وتصوراتهم لما هو مقبول أو غير مقبول.

في ظل كل هذا الانحدار، واستكمالا لما سبق للقضاء علي ما تبقي من الاداب والذوق العام وإبـ.ادةّ للقيم؛ برزت لنا ظاهرة التيك توك و”التيك توكرز” الذين أصبحوا نجومًا وقدوات للشباب…، ليس بسبب علمهم أو إبداعهم، بل بفضل المحتوى السطحي الذي يقدمونه وتلقيهم ارباح مهوله مجهوله المصدر بلا حسيب أو رقيب. أصبح هؤلاء الأشخاص هم النجوم الجدد للمجتمع، حتى أنهم يُستعان بهم في الأعمال الفنية، مما يرسخ فكرة أن الشهرة والمال يمكن الحصول عليهما بسهولة دون الحاجة إلى جهد حقيقي أو قيم أخلاقية. إن هذا التحول المقلق يعكس فشلًا في منظومتنا القيمية، حيث تراجع دور العلماء والمفكرين والمبدعين، وتقدم دور أصحاب المحتوى الفارغ. إن مجتمعًا كهذا، يرفع من شأن من لا يقدم قيمة حقيقية، هو مجتمع يضع نفسه على حافة الهاوية.

لإصلاح هذا الخلل، يجب أن نعيد التوازن بين التعليم والتربية. لا يمكن أن يكتمل تعليم الفرد دون تهذيب روحه وأخلاقه. يجب أن تكون المؤسسات التعليمية، من المدارس إلى الجامعات، ليست مجرد مصانع لإنتاج الشهادات، بل حاضنات للتربية ولتنمية الأخلاق والقيم الإنسانية. ينبغي علينا أيضًا أن نراجع المحتوى الذي نقدمه لأجيالنا القادمة، سواء في الإعلام أو الفن، وندعم المحتوى الهادف الذي يثري العقول ويهذب النفوس. وملاحقة أصحاب النجومية الواهية بالأعمال الخليعة وكل ما هو منافي للاداب العامة وقيم وعادات وتقاليد مجتمعاتنا وهويته المصرية العربية -وهنا يستوجبنا شمر وزارة الداخلية في بداء حملات مكثفة لملاحقة نجوم التيك توك ومراجعه شامله لهذة الظاهرة وملاحقة منتهكي قيم مجتمعنا، وكذالك تحرك مجلس النواب الاخير بتحذير المنصه بضبط المحتوي المقدم في مصر او الغلق النهائي؛ وكلن الدور ليس فقط علي الدولة ومؤسساتها بل ايضا علي الشعب وبمختلف فاته بالمقاطعة والإبلاغ عن اي محتوي به ما يخدش قيمنا الثابته للحفاظ عليها قبل اندثارها- فالمجتمع ككل هو مسؤول عن تربية أفراده.

ختاما… التعليم وحده قد يضيء العقل، لكن التربية هي التي تضيء الروح وتوجه الإنسان نحو الخير والصلاح. إنها المعادلة التي يجب أن نعيد النظر فيها وإعادة صياغتها، قبل أن ينهار بنياننا الاجتماعي والأخلاقي وتمحي قيمنا وهويتُنًا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.