الطاهر المعز يكتب | جَنّة الأثرياء من جحيم الفُقراء

0

تتمثل أهمّية تقارير المُؤسّسات الدّولية مثل صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي ومنظمة التعاوان الإقتصادي والتنمية، في كثرة ودقّة المعلومات التي تتضمّنها، والتي يُمْكن استغلالها لإدراك دقّة الوضع ببلد أو بإقليم أو بالعالم، لكن قراءة هذه التّقارير تتطلّب امتلاك “مفاتيح” لِفَكّ رُموزها واستخراج السُّمُوم التي تُخْفِيها اللُّغة المُنَمّقة أو الأسلوب السّلِس لهذه التّقارير المَدْرُوسة جيّدًا شَكْلاً ومضمونًا لإخفاء الأهداف الحقيقية الكامنة والتي لا تخدم سوى الدّول الإمبريالية وشركاتها العابرة للقارات، وهي الأطراف المُؤَسِّسَة لهذه المُؤسّسات والتي تمتلك سُلْطَة القَرار داخلها…
نشرت منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية (أيار/مايو 2015) تقريرًا بعنوان “كُلّنا مَعْنِيُّون: لماذا يستفيد الجميع من تقليل التّفوات” ( In it together : Why less inequality benefits all ) عن مخاطر التفاوت الطبقي على الإستقرار الإقتصادي والإجتماعي للأنظمة السياسية القائمة، كما نَشَرَ صندوق النقد الدّولي بعد حوالي أسبوعَيْن، خلال شهر حزيران/يونيو 2015 تقريرًا بعنوان ” أسباب وعواقب عدم المُساواة في الدّخل – آفاق عالمية ” (Causes and Consequences of Income Inequality: A Global Perspective ) عن مخاطر زيادة التفاوت الطّبقي على الإستقرار السياسي والإجتماعي للأنظمة القائمة، واتّسعت الهوة منذ نَشْر التقريرَيْن، اللذَيْن اتّفقا على اتساع الفجوة الطبقية منذ العقد الأخير من القرن العشرين، الذي يُصادف انهيار الإتحاد السّوفييتي، وسيادة “النيوليبرالية”، وتصلّب البرجوازية وأرباب العمل، ورفض التنازل لصالح العمال والفُقراء، ورفض حتى مُجرّد التّفاوض أحيانًا
يعترف التقريران باستفادة الأغنياء وحدهم من النمو الاقتصادي وإهمال الفئات مُنْخَفِضَة الدّخل، فتفاقمت التفاوتات بشكل غير مسبوق…
لماذا تهتم منظمات الأثرياء (صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي ومنظمة التعاون الإقتصادي والتنمية وغيرها) بالتفاوت في الدّخل وبعدم المُساواة؟ لأن اتّساع الفجوة الطبقية “يثير مخاوف ذات طبيعة اجتماعية وسياسية… ويولد أيضًا مخاوف اقتصادية، إذ يُؤَثِّرُ ذلك على الإنتاجية وعلى نمو الناتج المحلي الإجمالي…”، وفق تقرير منظمة التعاون الإقتصادي ووَرَدَ في تقرير صندوق النقد الدّولي: “… إن زيادة نصيب الفقراء من الدخل، وضمان مستوى عيش ورفاه الطبقة الوسطى أمر جيد للنمو…” ، ويُشير تقرير البنك العالمي (حزيران/يونيو 2015) إلى “ضرورة خفض التفاوت في الدخل وإعادة التوزيع من خلال تعزيز الفرص للأسر ذات الدخل المنخفض… ما يُؤثّر بالإيجاب على الاستقرار الاجتماعي والسياسي…”
تتضمّن “حُلُول” صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي في ما يُسمّيانها “بلدان الأسواق الصاعدة والنامية”، “تحسين الوصول إلى الخدمات التعليمية والصحية، وتخفيض الإنفاق الأقل استهدافًا (مثل دعم الطاقة)… (والحِرْص) على زيادة الإنتاجية في نفس الوقت، من خلال رفع مستويات المهارة وتقديم الدعم لبرامج التدريب والتّأهيل…” ( البنك العالمي 2012 )، لكي تستغل الشركات العابرة للقارات العَمالة الماهرة على عيْن المكان، حيث لا يتجاوز الراتب الشهري للعامل نحو 20% من رواتب نظيره في أوروبا الغربية أو أمريكا الشمالية، فضلاً عن توفُّر المادة الأولية في البلدان الفقيرة…
يؤكذ تقرير البنك العالمي على تحسين برامج التعليم الثانوي والعالي، شرط توجيهها نحو التّدريب والتّأهيل، ويُعلّل ذلك: “… إن الأفراد المتعلمين – من خريجي التعليم الثانوي أو العالي بين السكان في سن العمل – أكثر قدرة على التعامل مع التغييرات التكنولوجية وغيرها من التغييرات التي تؤثر بشكل مباشر على مستويات الإنتاجية… ” شرط أن يتضَمّنَ “الإصلاح في الأسواق الصاعدة والبلدان النامية، حماية حقوق الدائنين وتنظيم السلوك التجاري وحماية المستهلكين عبر تثقيفهم، وإعادة النظر في سياسات سوق العمل النشطة مع تعزيز مرونة أكبر في السوق، وتدريب العاطلين على البحث عن الوظائف ومطابقة المهارات… بهدف تعزيز الإستقرار وتجنّب الهَزّات الاجتماعية العنيفة…”
يشترط صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، منذ عُقُود “تشجيع الابتكار وتقليل لوائح سوق المنتجات ( أي عدم تحديد الأسعار وعدم مراقبتها) في البلدان النامية، حيث وجب تشجيع زيادة الإنتاجية الزراعية والتراكم السريع لرأس المال، ونشر التكنولوجيا في القطاعات كثيفة العمالة، بهدف رفع النمو بشكل كبير ونشر الرخاء على نطاق أوسع…”
مُستوى التفاوت سنة 2022
تُصدر العديد من المؤسسات والشّركات الخاصة (خصوصًا المصارف الكبرى) تقارير دَوْرِية عن الثروة العالمية، وأصدر المصرف السويسري (كريدي سويس) مؤخّرًا تقريرًا كتب مُعِدُّوه “ازدادت ثروة أغنى أثرياء العالم العام الماضي (سنة 2021) مع ارتفاع قيمة أسواق الأسهم والعقارات…”، حيث بلغت قيمة الثروة العالمية 463,6 تريليون دولارا، سنة 2021، بزيادة 9,8% عن سنة 2020، سنة انتشار وباء “كوفيد – 19″، وارتفعت نسبة الثروة العالمية التي يمتلكها 1% من أثرى الأثرياء من 43,9% سنة 2020 إلى 45,5% من الثروة العالمية بنهاية سنة 2021
يُشير تقرير مصرف كريدي سويس “إنه يمكن الحكم على توزيع الثروة بشكل أفضل من خلال النظر إلى متوسط الثروة لكل شخص بالغ”، وتتم المُقارنة بين ما تمتلكه نسبة 10% من أثرى السكان في بلدٍ ما، مع نسبة 10% من الفُقراء، وتفيد هذه المقارنة ارتفاع ثروة الأثرياء بشكل كبير في الولايات المتحدة والصين، وهما أكبر اقتصادَيْن رأسمالِيَّيْن حاليا، ويتوقّع تقرير المصرف السويسري تسجيل زيادة في عدد الأثرياء بنسبة 40% بحلول العام 2026 وزيادة الثروة العالمية بمقدار 169 تريليون دولار، فيما يُعاني الفُقراء من نقص الغذاء والطاقة ومن ارتفاع الأسعار ونسبة التضخم…
تعمّقت الفجوة الطّبقية على مَرّ السّنين، بفعل هيمنة النّظام الرأسمالي على العالم، بزعامة الإمبريالية الأمريكية، وتتخوف المؤسسات الدّولية (وهي في خدمة الإمبريالية وشركاتها) من انعكاس زيادة ثروة الأثرياء بشكل مُفرط، على الوضع الإجتماعي المُتَفَجِّر، وهو ما يعتبره البنك العالمي من “الآثار السلبية لعدم المساواة الاجتماعية على فرص نمو الاقتصاد الكلي”. يتمثل أحد أهداف هذه التقارير والتوصيات في التنبيه والوقاية من الهَزّات العنيفة والثّورات…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.