جلبير الأشقر يكتب | ملك بلجيكا يعرب عن “أسفه”

0

انتظر أهل جمهورية الكونغو الديمقراطية التي زارها ملك بلجيكا الحالي، فيليب ليوبولد لويس ماري، منذ فترة، انتظروا منه أن يعتذر عن الجرائم الفظيعة التي جرى ارتكابها في بلادهم عندما كانت مُلكاً لسلفه الملك ليوبولد الثاني بين عامي 1885 و1908. أجل، كانت بلاد الكونغو مُلكاً شخصياً لليوبولد الثاني تحت مسمّى «دولة الكونغو الحرّة»، وربّما كانت تلك أكثر التسميات تناقضاً مع المسمّى في أسماء الدول التي عرفها التاريخ، أو تتنافس على تلك المرتبة مع «الديمقراطية» الواردة في تسمية أكثر دول العالم شمولية في عصرنا، ألا وهي كوريا الشمالية.
فقد حصل ليوبولد الثاني من سائر الدول الأوروبية الاستعمارية المجتمعة في مؤتمر برلين المنعقد في عام 1884 أن أقرّت له بتملّكه الشخصي لمعظم حوض نهر الكونغو، وهي بلاد عظيمة المساحة في قلب القارة الأفريقية، شكّلت بالتأكيد إحدى أوسع الملكيات العقارية الشخصية في التاريخ، إن لم تكن أوسعها على الإطلاق. وللإشراف على إدارة مُلكيته، التي كانت منفصلة عن مملكته ولم يزرها قط طوال حياته، استند الملك البلجيكي إلى قوة من المرتزقة سيطرت على قسم كبير من البلاد بعد تغلّبها على تجار رقيق عرب وأفارقة من الزنجبار وسواها. وقد سهرت الإدارة المحلية على تأمين استغلال الملك لثروات الكونغو، وعلى الأخص العاج والمطّاط الطبيعي، وقد سخّرت السكان المحلّيين لهذه الغاية بفرض العمل الإلزامي عليهم بشروط شبيهة بالاستعباد، بل أبشع من العبودية الحديثة التي شهدتها أمريكا الشمالية.
فقد ارتكب رجال ليوبولد في الكونغو فظاعات هائلة في تسخيرهم لأهل البلاد أو معاقبتهم لعدم توفيرهم حصة محصول المطّاط المفروضة عليهم. فبالإضافة إلى المجازر الجماعية وحرق القرى، شملت الفظاعات أنواعاً من العقاب يصعب تصوّرها ويُصاب بحالة من الاشمئزاز العميق من يشاهد ما بقي من صور تشهد عليها، علماً بأن العقاب الأكثر انتشاراً كان قطع الآذان والأيدي، بما في ذلك آذان وأيدي الأطفال، بل كان المرتزقة يكافؤون على ما يجلبون من أياد مقطوعة لآمريهم!
هذا ويقدّر المؤرخون عدد ضحايا الفظاعات التي جرى ارتكبها إزاء أهل الكونغو في ظلّ ليوبولد الثاني بنصف السكان، أي عشرة ملايين من أصل عشرين مليوناً بدون أخذ الذين بقوا على قيد الحياة بعد تشويههم في الحسبان، وهي بالتالي إحدى أعظم حالات الإبادة الجماعية التي عرفها التاريخ، يفوق عدد ضحاياها عدد اليهود الذين أبادهم النازيون والذي بلغ عددهم ما بين خمسة وستة ملايين حسب الدراسات التاريخية الحديثة.
هذا وقد أدرك العالم ما يجري في الكونغو من فظاعات بعد سنوات بفضل من نبّهوا إليها وطالبوا بوضع حدّ لها، وقد وصفها أحدهم، وهو قسّ ومؤرخ أمريكي، بأنها «جرائم ضد الإنسانية» في أول ظهور لتلك التسمية التي دخلت لاحقاً في عرف القانون الدولي. وقد تعاظمت الحملة الدولية حتى قرّر البرلمان البلجيكي إنهاء تملّك ليوبولد الثاني الشخصي للكونغو وضمّها رسمياً إلى مستعمرات الدولة البلجيكية في عام 1908. ولم تحز الدولة المعروفة اليوم بتسمية جمهورية الكونغو الديمقراطية على استقلالها حتى عام 1960.
فلنعُد إلى حفيد حفيد ليوبولد الثاني، ملك بلجيكا الحالي فيليب. فقد خابت آمال أهل الكونغو الذين انتظروا منه أن يعتذر لما ارتكبه سلفه، بل حلم أكثر المتفائلين بينهم بأن تقرّ المملكة البلجيكية بذنبها وتقدّم التعويضات لأهل الكونغو الحاليين عمّا أصاب أسلافهم من فظائع، ناهيكم ممّا جرى نهبه من ثروات بلادهم وشعبها. فقد اكتفى الملك البلجيكي يوم الأربعاء الماضي بالإعراب عن «عميق أسفه لجروح الماضي» التي وصفها على النحو التالي:
«بالرغم من أن بلجيكيين عديدين وظّفوا أنفسهم بدفع من المحبة التي كانوا يكنّونها للكونغو ولسكانها، فإن النظام الاستعماري كان بطبيعته مبنياً على الاستغلال والهيمنة. وكان نظاماً قائماً على علاقة غير متساوية، لا مبرّر لها بذاتها، تتميّز بالأبوية وأنواع التمييز والعنصرية. وقد أدّت إلى انتهاكات وحالات من الإذلال.»
ولو قال أحد حكام ألمانيا الحالية مثل هذا الكلام البائخ في وصفه الإبادة النازية لليهود الأوروبيين، لقامت الدنيا ولم تقعد. بل لم تعتذر ألمانيا مراراً لما ارتكبه النظام النازي الذي سادها بين عامي 1933 و1945 ولم تقاضِ عدداً كبيراً من الذين شاركوا في إبادة اليهود وغير اليهود من ضحايا النازية وحسب، بل دفعت أموالاً طائلة لدولة إسرائيل بحجة أنها تمثّل ضحايا النازية اليهود، بما جعل ألمانيا الغربية مصدر الدعم الأكبر الذي حصلت عليه الدولة الصهيونية خلال عقديها الأولين قبل أن تتولّى أمريكا رعايتها بعد منصف ستينيات القرن المنصرم، ولاسيما بعد حرب 1967.
وكأن ملك بلجيكا أراد أن يؤكد كلام شاعر المارتينيك الكبير إيميه سيزير الذي قال لنُخَب الأوروبيين والأمريكيين قبل سبعين عاماً، في خطابه الشهير عن الاستعمار، أن ما يزعجهم في ما ارتكبه هتلر ليس قباحة جرائمه بذاتها، بل كونه ارتكب إزاء قسم من البيض وداخل أوروبا بالذات ما اعتادوا على ارتكابه إزاء غير الأوروبيين في الجزائر أو الهند أو إزاء السود في الولايات المتحدة الأمريكية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.