جميلة شحادة تكتب | تبقى العائلة حين لا يبقى أحد

0

“تبقى العائلة عندما لا يبقى أحد”. قالوا لنا. “وحدها العائلة، التي تبقى الى جانبك عندما تلفظك شدائد الأيام ومصاعبها الى قارعة الطريق”. علّمونا في الصِّغر. فهل فعلًا ما زالت مضامين هذه الأقوال سارية المفعول في أيامنا هذه في ظل التغييرات التي طرأت على شكل وأسلوب حياتنا، وفي ظلّ ما يشهده العصر الحديث من تحوّلات عديدة لمفهوم الأسرة السائد في المجتمع؟
في مقالي هذا؛ أقصد بالعائلة، الأسرة الممتدة أو العائلة الموسَّعة أو الحمولة أو العشيرة؛ وليس فقط الأسرة النواة، التي تُعتبر أوّل دائرة انتماء للفرد.
كان انتماء الأفراد للعائلة في الماضي كبيرًا ومتينًا، لا سيّما في المجتمع القروي باعتباره جماعيّ – Collective، ولو أن المجتمعات الشرقية عمومًا، صُنّفت في الماضي ضمن هذا النوع من المجتمعات، الذي تسوده العصبية القبلية، والذي يطالب الفرد بأن يضحّي بمصالحه الخاصة، من أجل مصلحة الجميع؛ عائلة، بلد، مجتمع… وهنا، أستذكر إحدى البلدات المجاورة للناصرة، قدْ عملتُ فيها لفترة وجيزة، التي يدفع فيها ربُّ كل أسرة مبلغًا ماليًا عنه وعن عدد أفراد أسرته النواة، كل شهر، بسبب نزاع حمولته مع أخرى في البلد. فالفرد في المجتمع الجماعيّ، يحتاج الى عائلته/ عشيرته لتصريف أموره في ظلِّ غياب السلطة التنفيذية، في معظم الأحيان. فالفرد يحتاج الى عائلته لكي تحميه إنْ اعتدى عليه آخرون من عائلة أخرى، أو بلدٍ آخر. والفرد في المجتمع الجماعيّ، بحاجة الى “فزعة” من عائلته عند “صبّة باطون” سقف داره أو دار أحد أبنائه؛ أو عند جني المحاصيل الزراعية مثل قطف الزيتون، على سبيل المثال. وهو بحاجة أيضًا الى عائلته في المناسبات المُحزنة، في حالات الوفاة، وعند أداء واجب العزاء؛ كذلك في المناسبات السعيدة، في فرحهِ أو فرح أبناء أسرته، لمَا كانت تتطلب هذه المناسبات من تحضيرات كثيرة ومُجهدة… “وكلُّه سلف ودين”، كما يُقولون. والفرد بحاجة الى عائلته عند ترشّحه أو ترشّح نصيرٍ له لرئاسة السلطة المحلية، أو لعضوية برلمان، أو حتى لدعمه في تقلّده أي منصب آخر، أو حصول أيٍ من أفراد أسرته على وظيفة ما، أو امتياز ما. لِذا، نجد الأفراد المنتمين لعائلة معينة، على استعداد لأنْ يدفعوا الثمن، كالمثال الذي سقته آنفًا، وأن يضحّوا بمصلحتهم الخاصة، في سبيل مصلحة العائلة. كما أن الآخرين، يتعاملون مع كل فرد من أفراد حمولة ما، على أنه جزء لا يتجزأ من حمولته/ عائلته الموسَّعة. فهو قد يُقتل في حالات الثأر حتى ولو لم يكن هو القاتل؛ وقد تمارَس عليه عمليات التنمّر، مثل نبذه ومقاطعته اجتماعيًا واقتصاديًا، أو شتمه واحتقاره، أو حرمانه من امتيازات مخصصة لأبناء بلده، في حالْ أتى أحد أفراد عائلته/ حمولته/ عشيرته على فعلٍ مُنكر.
لكنّنا في يومنا هذا، قد تغيّرت ظروف مجتمعنا، الذي هو أصلًا مجموع الأُسَر التي تشكّله، بتغيّر العلاقات بين أفراد الأسرة وفتور الروابط بينهم، والانتقال من مجتمع فلاّحي، الى مجتمع مدنيّ مع تطوّر الوسائل التكنولوجية، وخروج المرأة الى العمل، وأسباب كثيرة أخرى. فلم يعُد الفرد بحاجة الى “فزعة” من عائلته لتذود عنه في حال تعرّض للخطر، متوهِمًا بذلك أن هناك قانون، وهناك َمَن ينفِّذ القانون، وسيذودان عنه ويحصّلان حقوقه. ولم يعُد الفرد بحاجة الى “فزعة” من عائلته في مناسباته المُفرحة والمُحزنة، فقد حلّ المطربون والمطربات، والزجّالون، والطباخون، وفرق الرقص والدبكة، والقاعات المزدانة بأجمل الزينات، مكان الأعمام والعمات والأخوال والخالات والأخوة والأخوات وأولادهم/ن؛ فقلّت الفرحة في النفوس، على اعتبار أن فرحة الإنسان تزداد بفرحة الآخرين له ومعه. وحلّ منظّمو مراسم العزاء، وقاعات المساجد والكنائس، وغيرها من القاعات؛ مكان الحمولة، ليشاركوا أهل الفقيد عزاءهم، وبذلك اقتصر دور أبناء العم وأفراد العائلة الموسّعة، على الحضور الى بيت العزاء لتقديم واجب العزاء؛ وليتّجهوا بعد ذلك لإتمام مناسباتهم السعيدة؛ فالعمر غفْلة، وإن أجلّوا مناسباتهم السعيدة، لا يضمنون أن يعيشوا، أو ألا تحدث حالة وفاة أخرى. وهكذا، زاد فتور العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة، ومن ثمّ بين أفراد العائلة الموسّعة. وهكذا راح يعتبر البعض منّا، أننا انتقلنا من مجتمع جماعيّ، قَبليّ، الى مجتمع فردانيّ- Individual Society. والصحيح؛ أن هذا ليس صحيحًا تمامًا، برأيي، حيث أن شكل وأسلوب حياتنا قد تغيّرا نعم، وصحيح أن العلاقات بين أفراد العائلة قد فتُرتْ، وغاب التعاضد بين أفرادها، وأنّ الفرد ما عاد يضحّي بمصلحته الخاصة في سبيل المصلحة العامة للعائلة الموسّعة، وما عاد بحاجةٍ لفزعة من حمولته، وإنْ ما زال يسكن وأخوته، وربمّا وأعمامه وأولاد أعمامه، في بيوت متجاورة، أو في بناء عمودي في ذات الحي وذات الشارع. فلا يخفى على أحد اليوم أن القرب الجغرافي بين أفراد العائلة أو الحمولة، لا يعني بالضرورة قربًا عاطفيًا واجتماعيًا؛ فكم من أخوةٍ لا يعرفون شيئًا عن بعضهم، بل ولا يعنيهم أن يعرفوا، فهُم لا يتزاورون، ولا حتى في الأعياد، وهذا لا يعود لضيق الوقت وكثرة انشغالات كما يدّعي الكثيرون منًا، فالوقت سيجده كلُّ مَن اجتهد وأراد؛ وإنما الأمر يعود الى خلاف بين الإخوة أو الأعمام أو الأقرباء بسبب شبر أرض، أو تركة منسية، أو عقار آيل للسقوط، أو غيرة نسوة، أو نفوس مريضة قد نشأت على الأنانية وحبّ الذّات والتملّك.
كنتُ قبل ثلاث سنوات قد أصدرتُ كتابًا لليافعين (لجيل 13 سنة) بعنوان “سكّر”، لتوصيل رسالة من خلاله، وهي تقوية أواصر العلاقة بين الإخوة، فتفاجأت من تجاوب كثيرٍ من الأمهات مع فكرة الكتاب، ومن الردود الإيجابية لطرح هذا الموضوع. فهل لهذه الدرجة أصبح الموضوع حارقًا، ويحتاج لأن يوضع على طاولة النقاش بعد أن أصبحت تتردّد على ألسنة البعض: “أنا لم أختر أهلي”؟ أو بعد أن غاب عن قاموسنا (ولو أني لست مع العصبية القبلية) “أنا وأخويْ ع ابن عمي، وأنا وابن عمي ع الغريب”؛ أو “نقطة دم ولا ميت صاحب؟
ذكرت آنفًا أنني لا أوافق على أن مجتمعنا قد انتقل من مجتمع جماعيّ الى فردانيّ بشكل كليّ، فعقليتنا لم تتغيّر وإن تغيّرت ظروف حياتنا. فها نحن ما زلنا ندمغ عائلة بأكملها بعائلة إجرام، إذا ما انحرف أحد أفرادها أو أكثر الى طريق العنف وانخرط في عالم الإجرام، وها نحن ما زلنا نخوِّن عائلة بأكملها إذا ما فرد من أفرادها خان، وها نحن ما زلنا نأخذ بثأرنا من بريء لا ذنب له سوى أنه ينتمي لعائلة أحدهم بيننا وبينه تصفية حسابات. وإلا؛ لماذا قُتل الصحفي نضال؟ ولماذا قُتلت الأم منار وابنتها خضرة؟
إذا أردتم أن نعيش في مجتمع فردانيّ؛ فيجب أن تتوفر فيه كل ميّزات المجتمع الفردانّي. وليس من العدل ينتقم من زوجة على أفعال زوجها، أو من عم أو خال على أفعال قريب لهما أو أن يحاسب أخًا أو أختًا على أفعال أخٍ لهما، في الوقت الذي لا قد تكون أواصر الإخوة أو القرابة قد انقطعت فيما بينهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.