حسام الدين فياض يكتب | الثقافة بين التثقف والتثاقف

0

تلعب الثقافة خلال السنوات الأولى من حياة الإنسان دوراً مهماً في إعداده، ليكون أكثر فاعلية في محيطه الاجتماعي. كذلك كل جيل جديد غير مطالب بأن يبدأ من نقطة الصفر، ولكن عليه أن يستفيد ممن حوله، ويتعلم كيف يتكيف مع العالم الطبيعي ويتوافق مع محيطه الاجتماعي. وفيما بعد فإن أعضاء المجتمع مطالبون بأن ينقلوا التراث إلى الأجيال القادمة، وينقلوا لهم ما تعلموه من الماضي وما أضافوه إلى هذا الكل الثقافي هذه العملية تسمى بالتثقف. أما التثاقف فهو عملية مغايرة تماماً لمفهوم التثقف، حيث يشير إلى التغير من خلال الاتصال الثقافي الكامل، ويقصد بالاتصال الثقافي هنا الاتصال بين ثقافتين الذي يؤدي إلى زيادة أوجه التشابه بينهما في معظم الميادين الثقافية. وفي هذا السياق سنوضح عمليتي التثقف التلقائية الإرادية (أفقية)، والتثاقف القسرية الإجبارية في معظم الأحيان (عمودية).
– التثقف (التنشئة الاجتماعية): تعتبر عملية التثقف* التنشئة الاجتماعية من أقدم العمليات في المجتمع البشري، وهي سمة مميزة لكل المجتمعات البشرية في الماضي والحاضر، سواءً أكانت بدائية أم نامية أم متحضرة (متقدمة). ويتم من خلال هذه العملية ملاءمة سلوك الفرد ليتطابق مع توقعات الجماعة التي ينتمي إليها والمحافظة على بقاء المجتمع واستمراريته من خلال نقل ثقافته ومعاييره وضوابطه السلوكية من جيل إلى آخر، وتحقيق التوازن والتماسك في بيئة اجتماعية تتسم بالتغير وعدم الثبات النسبي عبر المستجدات المتلاحقة، كما تهدف هذه العملية بشكل أساسي تحويل الفرد من كائن عضوي إلى كائن اجتماعي وفرد ناضج يعي معنى المسؤولية الاجتماعية وكيف يتحملها، بحيث يصبح قادر على ضبط انفعالاته والتحكم في إشباع حاجاته.
ومن الجدير بالذكر أن التنشئة الاجتماعية كعملية مستمرة لا تقتصر فقط على مرحلة عمرية محددة وإنما تمتد من الطفولة، فالمراهقة، فالرشد وصولاً إلى الشيخوخة ولهذا فهي عملية مستمرة حساسة لا يمكن تجاوزها في أي مرحلة لأن لكل مرحلة تنشئة خاصة تختلف في مضمونها وجوهرها عن سابقتها، ولا يكاد يخلو أي نظام اجتماعي صغيراً كان أم كبيراً وأي مؤسسة رسمية أو غير رسمية من هذه العملية، ولكنها تختلف من واحدة إلى أخرى بأسلوبها لا بهدفها. ومن أبرز مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأسرة، التي تعتبر البيئة الاجتماعية الأولى التي ينشأ فيها الفرد وتبنى فيها شخصيته الاجتماعية باعتبارها المجال الحيوي الأمثل للتنشئة الاجتماعية والقاعدة الأساسية في إشباع مختلف حاجات الفرد المادية منها والمعنوية بطريقة تساير فيها المعاير الاجتماعية والقيم الدينية والأخلاقية، كما تلعب مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى كالمدرسة، ودور العبادة، والجامعة، وسائل الإعلام والاتصال، دوراً أساسياً في إتمام وتوجيه عملية التنشئة الاجتماعية في إطار تكاملي يحقق الانسجام القيمي والاجتماعي داخل المجتمع.
وتتفق معظم التعريفات حول الهدف الأساسي من التنشئة الاجتماعية والذي يتمثل في تشكيل الكائن البيولوجي وتحويله إلى كائن اجتماعي. وخلاصة تلك التعاريف يمكننا القول أن التنشئة الاجتماعية ” هي العملية التي يتم من خلالها انتقال الثقافة من جيل إلى جيل عن طريق تعليم الفرد منذ نشأته المعتقدات والقيم والعادات والتقاليد والأعراف والمهارات في المجتمع الذي ينتمي إليه حتى يستطيع التكيف مع أفراده من خلال ممارسته لأنماط من المعايير والأدوار المقبولة اجتماعياً لتجعل منه عضواً فاعلاً ومنفعلاً داخل أسرته ومجتمعه، ويشكل التفاعل الاجتماعي جوهر عملية التنشئة الاجتماعية”.
– التثاقف: أي اكتساب الثقافة المغايرة، وتأتي كلمة التثاقف في السياق الثقافي الذي يشمل العلاقة التي تجمع بين ثقافة ” السيد ” وثقافة ” العبد ” وهي أيضاً العلاقة التي تجمع بين ثقافة الإنسان المُستعمِر وثقافة الإنسان المستعمر، أي في نهاية الأمر، هي العلاقة التي تربط بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر. ولتكريس تلك العلاقة العمودية بين الطرفين وبالاستعانة بالقوى الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية الحديثة، فكر الإنسان الغربي المستعمر في مسألة تنميط وتكييف ثقافة الإنسان العربي، على ثقافته تحت فكرة التثاقف.
وقد شاع استخدام هذه المصطلح في الانثروبولوجيا في أواخر القرن التاسع عشر، خصوصاً في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد اهتمت الانثروبولوجيا الثقافية بالدراسات الثقافية، فضلاً عن الاهتمام بدراسة انتقال التراث الثقافي زمنياً داخل الثقافة الواحدة، أو عبر ثقافات متعددة.
ويعرف راديكليف بروان التثاقف بأنه تغير الحياة الاجتماعية بفعل تأثر أو سيطرة الغزاة الأوروبيين وخاصةً في القارة الإفريقية وقد ارتبط هذا الدور بالبغي الاستعماري الأوروبي، إذ أن هناك فارقاً كبيراً بين التثاقف والتبادل الثقافي، فالأخيرة تعني تبادلاً متساوياً، أما الأولى فتعني عملية نقل لثقافة معينة بل فرضها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.