حسن العاصي يكتب | تحولات النيوليبرالية

0

تتمتع الليبرالية الجديدة والاستبداد بروابط نظرية قوية، كما يتضح من السرد النيوليبرالي حول ضرورة وجود دولة قوية، قادرة على إعادة تشكيل المجتمع وفق أسس السوق. لا يستطيع النيوليبراليون (وخاصة الليبراليون النظاميون الألمان) التوفيق بشكل كامل بين شكوك الديمقراطية وشغفها وعقلانية السوق. يتطلب نقاء السوق وجود أوصياء، ولا يمكن دائماً اختيار الأوصياء ديمقراطياً. وهذا سيناريو شهدناه يتكشف في الأنظمة التكنوقراطية الأوروبية، ولكن أيضاً في الدول النامية، بدءًا من تجارب أمريكا اللاتينية وآسيا في سبعينيات القرن الماضي. لم يكن الركود الكبير نقطة تحول واضحة، إلا أنه أدى إلى تكثيف العلاقة بين الاستبداد والنيوليبرالية.
أصبح الأوصياء أكثر هيمنة، وغالباً ما رسموا خطاً فاصلاً بين “المواطنين الإثنيين”، الذين يُعتبرون “أكثر ملاءمة” للمنافسة العالمية، و”الأجانب”، وهم عادةً مهاجرون. لقد عادت الرأسمالية جزئياً إلى الحدود الوطنية. حتى في البلدان ذات التقاليد الديمقراطية العريقة، تطلّب بقاء الرأسمالية النيوليبرالية سياسات قومية واستبدادية، أعادت تشكيلها بطريقة أكثر محافظةً وقوميةً وحمائية. لقد ظهر ثلاثة أنواع من النيوليبرالية الاستبدادية. الأول هو التكنوقراطية، التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الاقتصادات الأكثر تقدماً وفي بنية الاتحاد الأوروبي نفسها، وخاصةً منذ تسعينيات القرن الماضي. أما الثاني فهو شكل القومية، الذي غالباً ما يكون “إثنيًا” في محتواه ولهجته شعبوية، والذي ترسخت جذوره في العديد من البلدان (بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية في عهد ترامب)، ولكنه أكثر وضوحاً في شبه أطراف أوروبا الوسطى والشرقية. النوع الثالث هو الاستبداد التقليدي للعديد من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، حيث تضافرت اقتصادات السوق غير المتقدمة مع وضع التبعية العالمي، مما أدى سريعاً إلى تحول نحو سياسات غير ديمقراطية في التسعينيات. نتناول الليبرالية الجديدة الاستبدادية بمزيد من التفصيل دراسة الثلاث نماذج ذات الصلة: التكنوقراطية في إيطاليا، والنيوليبرالية القومية في المجر، والاستبداد التقليدي في كازاخستان.

التكنوقراطية الإيطالية
كانت إيطاليا بعد التوحيد دولة هشة ذات برجوازية ضعيفة، وقد استمرت هذه السمات، إلى جانب الانقسامات المستمرة (شمال/جنوب، مدن/ريف، فاشية/مناهضة للفاشية، أحزاب موالية للغرب/شيوعيين)، حتى ثمانينيات القرن العشرين. وعلى الرغم من النمو السريع الذي شهدته بعد عام 1945 (في عام 1990 كان اقتصادها سادس أكبر اقتصاد في العالم)، إلا أن إيطاليا اضطرت إلى اللحاق بركب دول شمال أوروبا، ونشرت تكنوقراطيين بشكل متكرر للبقاء في قلب الرأسمالية الليبرالية. تدخل التكنوقراط الإيطاليون في السياسة كوكلاء للجزء الليبرالي والمُدوَّل من رأس المال، وهو تقليد حليف متمركز في المدن الشمالية ومجموعات عابرة للحدود الوطنية مثل شركتي “فيات” Fiat وبيريللي Pirelli. ومع ذلك، فقد تم استقطاب بعض التكنوقراط من قبل الطبقة البرجوازية المعارضة ذات التوجه الوطني والأكثر محافظة، والتي يتمركز معظمها في الشركات التي تسيطر عليها الدولة والشركات الصغيرة؛ وغالباً ما كانت مصالح هذه الطبقة وأعرافها ممثلة من قبل قوى قومية شعبوية مثل حزب “رابطة الشمال الإيطالية” Lega Nord، ورئيس الوزراء الإيطالي السابق “سيلفيو برلسكوني”Silvio Berlusconi.
تتضح هذه الجدلية من خلال ثلاث فترات في العصر النيوليبرالي الإيطالي: أولاً: فترة التسعينيات، التي اتسمت بالحكومات التكنوقراطية. ثانياً: العقد الأول من القرن الحادي والعشرين التي هيمن عليها برلسكوني. ثالثاً: العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، مع الحكومات التكنوقراطية الجديدة وما يصاحبها من صعود القومية الشعبوية.
سواءً أكانت تكنوقراطية أم قومية، كانت النيوليبرالية الإيطالية في الغالب تجربة من أعلى إلى أسفل، مدفوعة من قبل الدولة. لعب البنك المركزي (بنك إيطاليا) دوراً رئيسياً كحلقة وصل بين السياسة الوطنية والأفكار الدولية، وأصبح المحرك الأساسي للنيوليبرالية. تلقى خبراؤه تعليماً دولياً في كثير من الأحيان، ويعملون كـ”مثقفين عالميين” ويمكن اعتبارهم نموذجاً لبلد موحد حديثاً مثل إيطاليا. في الواقع هم يُفسرون استقلاليتهم كممثلين للأفكار والقيم الأوروبية.
بدأ صعود بنك إيطاليا بانفصاله عن وزارة الخزانة عام 1981، واستمر عندما أصبح محافظه السابق وزيراً للخزانة (1989-1992) في الفترة التي سبقت معاهدة ماستريخت. في عام 1992، انهار النظام الحزبي الإيطالي تحت وطأة التحقيقات القضائية، وتولى “التكنوقراط” زمام الأمور، متخفيين في هيئة اقتصاديين أكاديميين من يسار الوسط، وخاصةً رئيس الوزراء “ماتيو سالفيني” Matteo Salvini، وكبار المسؤولين التنفيذيين في بنك إيطاليا.
ضمت جميع الحكومات بين عامي 1992 و2001 وزراء مستقلين وغير منتخبين؛ وتألفت حكومة ديني فقط من مسؤولين مستقلين، بمن فيهم “سوزانا أنييلي” Susanna Agnelli من سلالة مالكي شركة فيات. أصبح خبراء البنك “مسؤولين تنفيذيين أساسيين” وجلبوا معهم الكفاءة و”أصولاً غير ملموسة” أخرى. في إطار الترويج لأجندة نيوليبرالية، أظهروا قدرةً ثقافيةً وسياسيةً على التأثير. وبشكلٍ عام، تبنوا وجهة نظرٍ “عالمية” مفادها أن “الأوروبية” المستدامة والانفتاح على قوى السوق وحدهما كفيلان بإيصال البلاد إلى الحداثة الكاملة. وبهذا المعنى، كانوا يتبعون أجندةً عبّر عنها بوضوح الزعيم الطموح لحزب يسار الوسط الرئيسي “ماسيمو داليما” Massimo D Alema في رؤيته لـ”دولةٍ طبيعية”: دولةٌ تتمتع بدولةٍ فعّالة، صديقةٌ للمواطنين، قد لا تكون منتجةً للحليب أو الفولاذ، لكنها تعرف كيف تُوفّر مستوياتٍ أوروبيةً من التعليم والبحث العلمي والخدمات الأساسية. دولةٌ تضمن شبكة أمانٍ اجتماعيٍّ قادرةٍ على تقديم الدعم والأمل والفرص لأضعف أفراد المجتمع، ولا تُسرّب الموارد عبر آلاف القنوات المختلفة التي تُتيحها المحسوبية.
منطقة اليورو
انضمت إيطاليا إلى منطقة اليورو منذ نشأتها، لكن الإصلاحات وسياسات التقشف (وخاصة قوانين الميزانية الصارمة) أثّرت سلباً على اقتصادها. فبين عامي 1993 و2000، بلغ متوسط النمو 1.6٪ فقط. أما المحسوبية والفساد، فلم يتراجعا، بل غذّتهما خصخصة شركات مثل عملاق النفط “إيني” Eni، وشركة الكهرباء “إينيل” Enel، وشركة التكنولوجيا الفائقة “فينميكانيكا” Finmeccanica. وتُظهر الأبحاث أن الفساد يزداد بعد عمليات الخصخصة عندما تكون هذه الأخيرة “ذات أهمية اقتصادية”، كما كان الحال في إيطاليا. فقد احتفظت الدولة بحصص كبيرة في الشركات المخصخصة، وعُيّنت الإدارة العليا الجديدة من قِبَل الحكومات وفقاً لمعايير سياسية. دفع ترسيخ النخبة والمحسوبية والتقشف العديد من الإيطاليين إلى التخلي عن اليسار وانتخاب “برلسكوني” عام 2001. وبغض النظر عن خطابه الصاخب، لم تُمثل سياسات “برلسكوني” انقساماً جذرياً؛ بل كانت مزيجاً من القومية الشعبوية والتكنوقراطية؛ فلم يكتفِ بتعيين اقتصاديين نيوليبراليين معروفين في مناصب مهمة؛ بل فاز أيضاً في الانتخابات بسبب قدرته المزعومة على إدارة إمبراطورية تجارية.
استغل “برلسكوني” خيبة أمل الإيطاليين من التسعينيات وحوّلها إلى مشروع سياسي، متجذر في الفردية الصارخة لجزء من البلاد، وخاصةً بين الشركات الصغيرة في شمال إيطاليا، ولكنه أيضاً في “صدع أخلاقي” أوسع بين اليسار واليمين التقليديين. في حين ركز خطاب “برلسكوني” غالباً على الكفاءة وريادة الأعمال، إلا أن سياساته كانت أكثر انتهازية منها ليبرالية؛ بل عملت على حماية مصالح الجزء الأكثر وطنية وقومية من رأس المال الإيطالي، والذي شمل إمبراطورية “برلسكوني” الإعلامية “ميدياست” Mediaset ، وشركات معظمها إيطالية. ورغم وعوده بتخفيضات ضريبية كبيرة، لم يُوفِ بها “برلسكوني” قط. وتعارض دفاعه عن الوضع الراهن مع الأفكار الأكثر ليبراليةً لدى بعض معاونيه، مثل الاقتصادي المستقل “دومينيكو سينيسكالكو” Domenico Siniscalco (وزير الاقتصاد 2004-2005)، الذي استقال بطريقة مثيلرة للفضائح. ومع ذلك، كانت ممارسات الليبرالية الجديدة حاضرة في سوق العمل، حيث أدت “قوانين بياجي” Piaget s laws (2003) إلى مزيد من انعدام الأمن والهشاشة. وارتفعت نسبة بطالة الشباب في الجنوب إلى 40%؛ وأثرت الوظائف المؤقتة بشكل رئيسي على الأجيال الشابة. وتغلغلت الليبرالية الجديدة في سوق العمل، بالإضافة إلى إدارات المدن والرعاية الاجتماعية المحلية.

حكومة “ماريو مونتي
بعد أزمة الديون السيادية وضغوط الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي في أواخر عام 2011، أُزيح برلسكوني سريعاً، وحل محله الخبير الاقتصادي والمفوض السابق للاتحاد الأوروبي “ماريو مونتي” Mario Monti الذي أصبح مثالاً يُحتذى به في “التكنوقراطية”.
لم يكن أيٌّ من مسؤولي مونتي عضواً في الحزب. تبنى “مونتي” تدابير تقشفية صارمة، لا سيما في نظام الضمان الاجتماعي، تحت ضغط الأسواق المالية.
واجهت إيطاليا ركوداً اقتصادياً حاداً، نتج جزئياً عن سياسات التكنوقراطية التي لم تتوسط فيها الأحزاب. وافق “مونتي” على الطلبات الصارمة من البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية: في عام 2012، اضطرت إيطاليا إلى التكيف مع الميثاق المالي الأوروبي وإدراج التزام بموازنة ميزانية الدولة في الدستور.
كانت حكومة مونتي مثالاً رئيسياً على الدولة الاستبدادية العابرة للحدود الوطنية في أوروبا. بعد عام 2013، استمرت التكنوقراطية والقومية الشعبوية في لعب دورهما، وغالباً ما كان ذلك معاً. تعاون خليفة “مونتي” مع اقتصاديين سابقين في الحزب الديمقراطي المسيحي وائتلافات يسار الوسط. وظلت وزارة الاقتصاد في أيدي تكنوقراط. في الوقت نفسه، جسّد “ماتيو رينزي” Matteo Renzi الذي تولى رئاسة الوزراء عام 2014 محاولةً من يسار الوسط لإقامة علاقة أكثر مباشرة بين الزعيم والناخبين، دون وساطات أو أيديولوجيات حزبية كبيرة؛ وهو نوع من الشعبوية من يسار الوسط، غنية بالشعارات، ولكنها غامضة وانطباعية بشأن الأفكار والسياسات. في غضون ذلك، واصلت النيوليبرالية شق طريقها خارج السياسة: ففي عام 2017، كان لدى إيطاليا أحد أكبر اقتصادات الظل في العالم) ونقلت شركات كبيرة (مثل فيات) مقراتها إلى الخارج؛ واستمرت الأجور في الانخفاض.
أدى هذا التوجه النيوليبرالي الزاحف والخفي إلى ظهور مشاعر معادية للنخبوية ومواقف معادية للهجرة ومشككة في الاتحاد الأوروبي، والتي أدت في عام 2018 إلى فوز “حركة النجوم الخمس” Five Star Movement وحزب “رابطة الشمال” Lega Nord (الذي كان حتى عام 2018 حزباً إقليمياً مؤيداً لاستقلال شمال إيطاليا)، والذي شكل ائتلافًا غير عادي “يساري-يميني” ذي دلالات قومية قوية. ومع ذلك، احتفظ التكنوقراط بمناصب متميزة في الدولة ومجلس الوزراء، مثل قيادة وزارتي الاقتصاد والخارجية، حيث أُسندت إلى خبراء مستقلين. في الوقت نفسه، شهدت شعبية زعيم حزب الرابطة “ماتيو سالفيني” Matteo Salvini وزير الداخلية (2018-2019)، على انتعاش القومية الشعبوية في إيطاليا. كان ذلك، من نواحٍ عديدة، عودةً إلى سياسات “برلسكوني”، وإن كان ذلك بنبرة أكثر عدوانيةً ومعاداةً للأجانب، وروحاً أقوى معاديةً لأوروبا وللهجرة.
حقق حزب “سالفيني” نجاحاً كبيراً، لا سيما بين عمال الاستقلال والمصانع، الذين يُمثلون مصدر الدعم التقليدي لحزب الرابطة. نجح النداء القومي المناهض للهجرة حيث كان انعدام الأمن الاقتصادي والمخاوف العالمية أكبر، بما في ذلك في جنوب إيطاليا، التي كانت في السابق هدفاً للوم من قِبَل حزب الرابطة. هناك أصداء لدعم الطبقة المتوسطة الدنيا للبونابرتية أو الفاشية، كما حللها المنظرين الماركسيين.
شهدت إيطاليا تحولين آخرين منذ أغسطس 2019، أولاً: أُجبرت الرابطة على الانضمام إلى المعارضة بسبب صعود ائتلاف غير متوقع بين الديمقراطيين وحركة النجوم الخمس، التي لا يزال يقودها “جوزيبي كونتي” Giuseppe Conte وهو أكاديمي قانوني ذو جذور راسخة في المؤسسات الكاثوليكية في روما. ثانياً: في خضم جائحة كورونا، استعادت التكنوقراطية كامل سلطتها، بتعيين محافظ البنك المركزي الأوروبي السابق “ماريو دراجي” Mario Draghi رئيساً للوزراء في 2021. قاد “دراجي” ائتلافاً كبيراً وحكومة تضم 9 تكنوقراط و13 عضواً في الحزب. بدت مهمته أقل توجهاً نحو الليبرالية الجديدة، حيث تعين عليه إنفاق المبلغ الكبير الممنوح لإيطاليا من صندوق الإنعاش الأوروبي. مرة أخرى، تعين على الحكومات الإيطالية غير المنتخبة إنقاذ القدرة التنافسية للرأسمالية الإيطالية والأوروبية (هذه المرة في مواجهة الولايات المتحدة والصين). لكن هل يُعد هذا انحرافاً حقيقياً عن الليبرالية الجديدة؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.