حسين علي يكتب | التنوير والجري وراء السراب

0

تساؤلات كثيرة تشغل ذهن كل مثقف عربى مهموم بمشكلات وطنه: هل ثمَّة جدوى من محاولة تنوير الناس؟ أم أن الأمر لا يزيد على كونه فضفضة أو «طق حنك» كما يقول أهل الشام؟ وهل التنوير – في مجتمعات تعشعش في رءوس أهلها الخرافات والخزعبلات، وتتفشى بينهم الأمية إلى معدلات مرتفعة – هو جرى وراء سراب؟ هل نحن بوصفنا تنويريين نفتل من الرمال حبالًا؟ أم أننا – في واقع الأمر – نكتب على الماء؟ هل الصمت أبلغ من الكلام وأفضل في مجتمعاتنا العربية؟ أم أن الحوار بيننا هو أقرب ما يكون لحوار الطرشان؟ هل نحن كمثقفين نتحاور مع أنفسنا وحسب؟ أم نحن نستهدف تنوير رجل الشارع؟ هل رجل الشارع مهموم بقراءة هذا المقال أو ذاك، أو الاطلاع على هذا الكتاب أو غيره؟ أم أن الحصول على رغيف العيش أهم عنده وأجدى من كل ما سطرته أقلام المثقفين؟
حين تثار مسألة تتعلق بمصير الناس في منطقتنا العربية، لمن سوف ينصت عامة الناس؟ إن الأغلبية الغالبة من شعبنا العربى غائبة الوعى وليس لديها حس نقدى، وتقدس كثيرًا من الخرافات والخزعبلات، وتسير كالأنعام وراء كل من يتاجر بالدين؟ وتقف موقفًا متشككًا من الثقافة والمثقفين؛ من هنا تتعاظم مهمتنا كتنويريين وتتبلور هذه المهمة في العمل على تغيير آليات التفكير لدى رجل الشارع، إن النهج الانفعالى الذى يتبعه الناس في نظرتهم إلى الأشياء والأشخاص، أدى وسيؤدى إلى كوارث ونكبات. صارت عقولهم كالأوانى الفارغة تتلقى الشعارات الرنانة الجوفاء، والدعوات الدينية المضللة.
إن إلقاء نظرة سريعة على ما تفرزه منصات التواصل الاجتماعي تكشف عن الازدواجية المقيتة التى يعيشها الناس في مجتمعاتنا العربية، إن الكم الهائل من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحِكَم والمواعظ، التى تغرق صفحات التواصل الاجتماعي، يكشف الازدواجية والتدين الظاهرى عند الناس. لو أن هذا الكم الهائل من الآيات والأحاديث النبوية والحِكَم والمواعظ التى يتبادلها الناس كانت صادرة عن إيمان واقتناع لتغير حال الناس نحو الأفضل، وصارت مجتمعاتنا أرقى. وما يقال عن تداول الحِكَم والمواعظ يقال أيضًا عن بعض الأقوال والمقالات والكتب الصادرة عن بعض المنتسبين للتنوير، يقولون شيئًا مبهرًا ورائعًا، ويسلكون على نحو مخالف في بعض المواقف بما يتعارض مع أبسط مبادئ التنوير.
الازدواجية هى داء عضال يسرى في المفاصل المختلفة لمجتمعاتنا، رجل السياسة يقول للناس أحلى كلام، وفى سلوكه الفعلى يستبد ويطغى، رجل الدين، يستشهد دومًا بما قاله الله وما قاله الرسول، لكن تصرفاته في الحياة اليومية، تُكَذِّب إيمانه بما يردده لسانه، وأستاذ الجامعة الذى يتشدق في كل مناسبة بالقيم والمثل الرفيعة، في حين أن مواقفه العملية لا تمت للقيم أو المثل بصلة. نحن لا نعمم، إذ إن هناك بلا ريب استثناءات جديرة بكل تقدير.
إن أحوج ما نحتاجه لتستقيم حياتنا وترقى مجتمعاتنا وتتقدم هو أن نتحرى الصدق والاتساق في كل ما نقول ونفعل. علينا أن نراجع مفاهيمنا ومصطلحاتنا، علينا أن نميز بين المعلن والمضمر، وبين الصريح والخفى في خطابنا الدينى.
الحقيقة إننا إذا تأملنا الآيات التى تدعو لإعمال العقل في القرآن الكريم نجدها قد وردت مئات المرّات إذ نجد ألفاظًا من قبيل: الفكر، والتفكر، والعلم، والنظر، والتبصّر، والإدراك، والتدّبر، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ للعقل شأنًا كبيرًا ومقامًا عظيمًا في القرآن الكريم؛ والسؤال الآن:
لماذا نجد في مجتمعاتنا العربية – المؤمن أهلها بالقرآن الكريم الذى يحث على التفكير ويحتفى بالعقل والتعقل – انتشارًا واسعًا للخرافات، وعداءً للعلم والتفكير العلمى، واستهانة شديدة بالعقل والتفكير المنطقي؟! كيف ينسجم هذا مع ذاك؟! يحث كتاب الله (القرآن الكريم) على التفكير العقلى، في ذات الوقت الذى يعادى فيه عباد الله (المسلمون)، العقل والتفكير العقلى، ويأنسون للخرافات والخزعبلات؟! الإجابة.. نجح الدعاة ورجالات الدين في تشكيل الذهنية العربية – على مدى مئات السنين – على نحو يتم خلاله حصر العقل في دائرة معينة لا يتعداها، وهى أن المقصود بالتفكر والتعقل هو تأمل عظمة الخالق سبحانه وتعالى، والتفكر في نعمه جل شأنه، وتدبر قدرة المولى جل وعلا. هذا هو نطاق العقل، ممنوع الخروج عن هذه المجالات، لأن الخروج عنها سوف يؤدى إلى شطط وضلال، هكذا كان الخطاب الإسلامى وما زال، فالعقل وفقًا للسان العرب سُمِّى «عقلًا» لأنه يَعقِل صاحبه عن التورط في المهالك أى يَحبِسه. ينبغى إذن على المسلم أن يستخدم العقل في مجال محدد لا يتعداه، فهو ليس حرًا مثلًا في السؤال عن سبب وجود الشر في العالَم.. محظور السؤال عن علة وجود الشر: والمقصود بالشر الأمراض والظلم والكوارث الطبيعية المهلكة للحجر والبشر وكل ما يسبب عذابًا أو ألمًا للإنسان. كيف يتوافق وجود الشر مع وجود إله قادر ورحيم؟ مثل هذه الأسئلة التى يطرحها العقل رفضها الدعاة ورجال الدين على مر العصور.
يكشف لنا النقد الثقافى إذن أن النسق المعلن هو الاحتفاء بالعقل والحث على التفكير العقلى، في حين أن النسق المضمر الذى نجح في استخراجه والترويج له عبر مئات السنوات هو أن التفكير يكون مقتصرًا على مجالات دون مجالات، وهذا التسويق شكَّل الذهنية العربية على نحو جعل الناس في بلادنا تحجم عن التفكير وتعادى العقل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.