حمدي عبد العزيز يكتب | القطار

0

كانت اللحظة الملهمة والمفعمة بالبهجة والشغف هي اللحظة التي تبتدئ من حيث ينتهي آخر يوم في عامنا الدراسي فتتلقف أمي الحقيبة الجلدية الكبيرة من فوق دولابنا الجوزى العتيق لتضع فيها بدقة وعناية كل ماسنحتاجه من ثياب داخلية وبيچامات وجلاليب وفساتين وقمصان وبناطيل وجوارب وماإلى غير ذلك إلى أن تنتفخ الحقيبة الكبيرة فتغلق قفلها الحديدي وتربط حزاميها الملاصقين بها من الجانبين تمهيداً لصباح اليوم التالى الذي سيأخذ فيها والدي إجازته السنوية لينطلق بنا عبر قطار إمبابة إلى سكة حديد مصر حيث تتراص القطارات وتتوازى الأرصفة والقضبان العديدة الممتدة طوالياً بلانهاية بصرية ، ننتقل من رصيف إلى رصيف وابي بصلعته اللامعة تحت آشعة الشمس ووجهه الذي تنز منه قطرات عرقه الذي اغرق قميصه الأبيض من بين باطيه وظهره يهرول أمامنا حاملاً الحقيبة على كتفه الأيسر داعماً لها بذراعه الأيمن تارة وتارة أخري ينقلها على كتفه الأيمن داعماً لها بذراعه الأيسر وهرول أمي خلفه ممسكة بي في يد وممسكة بأختي التي تصغرني بعام واحد في اليد الثانية وكلانا أنا واختي بدورنا نمسك بباقي اخوتي ليظل أبي بين الحين والآخر يلتفت نحونا هاتفاً (أوعي العيال) و (ماتسيبوش إيد ماما ياولاد) إلى أن ننجح في العثور على القطار الذاهب إلى دمنهور ومن ثم التدافع مع المتدافعين إلى داخله وأن نستقر على مقعد خشبي في القطار الذاهب إلى محطة دمنهور .
، أنا كنت أصر على الجلوس إلى جانب الشباك سواء جلست على المقعد الخشبي أو جلست على حجر أمي أو ساق أبي أو حتي لوتطلب الأمر وقوفى لمدد طويلة ، أياً كان ازدحام القطار الذي كنا نركبه سنوياً وأياً كانت الظروف فقد كنت حرفياً أقاتل من أجل هذا ، وإذا لم يتحقق فأنني كنت كفيلاً عبر الإلحاح والزن والبكاء أن أجلب الكدر والنكد على أبي الذي يضطر مطلقاً زفرة التبرم والملل والزهق وربما الغضب أحياناً بجذبى ووضعى في موضعي التاريخي المفضل إلى جوار الشباك بعد أن تتدخل توسلات أمي (أصله صدره تعبان ومحتاج هوى الشباك)
، كانت تقول ذلك وهي تنظر لباقي أخواتي الذين حتماً سيغيرون من هذه الوضعية المتميزة ليكون ذلك مبررها للتوسط لدي أبي ولكي أنال مرادي بأن تكون رأسي ملاصقة طوال رحلة السفر لشباك القطر مباشرة ..
في الحقيقة كنت مصاباً بداء صدري اسمه (السعال الديكي) وظللت لسنوات مصاباً به ، لكن هذا لم يكن سبب إلحاحي على اتخاذ هذه الوضعية على الإطلاق ، بل لم تكن للمرض أية أعراض تسبب معاناة ذات وطأة ثقيلة خلال فصل الصيف اللهما إذا تعرضت لنزلة برد طارئة وهذا كان أمراً نادر الحدوث في الصيف بالنسبة لي .. ولكنه الشغف اللانهائي الذي كان يشتعل داخلي لهذا العالم الأخضر الذى ماأن يبدأ القطار في مغادرة شريط مساكن القاهرة إلا ويأتي ليسير مساراً دائرياً وكأنه يدور نصف دورة حول نفسه عكس القطار ثم يتلاشي ، وكلما سارع القطار في سيره كلما تسارع إلى الخلف في عكس اتجاه سير القطار سير الحقول المجاورة لمسار القطار والسواقي والجاموس وجداول المياه والترع الطويلة بأسطحها الرقراقة التي كانت تشعرني بالعطش للمياه .
القطار الذي كان يهدهدني فأشعر بقبضة أمي التي تتشبث بطرف قميصي فألتفت إليها صائحاً (ماتسبيني ياماما .. انتي خايفه ليه .. هو أنا فرخه هاتطير من الشباك؟)
لما أكن اتحول ببصري خارج شباك القطار إلى داخله ، إلالحظات استثنائية بسيطة ارفع فيها زمزمية المياه من الحقيبة القماشية الصغيرة التي كانت أمي تعلقها في كتفها لأروي عطشي ، أو حينما اراقب فيها الرجل الذي يمر بين ركاب القطار حاملاً سلةً من الخوص يصطف الكعك الاسطواني الكبير في العصيان المرشوقة في حوافها بينما ترقد في الداخل أعواد الجرجير وقطع الجبن والبيض المسلوق وخلطة التمليح (الدقة بضم الدال) وحيث يصيح الرجل ملتفتاً إلى شاغرى مقاعد القطار والوقوف (سميط وجبنه وبيض)
، أو ذلك الرجل الذي يمر من بين الكتل البشرية الواقفة في القطار حاملاً على كتفه دلواً من الصفيح ممتلأً بزجاجات البيبسي كاكولا والليمونيتا والسيدر والسيروسباتس وقطع الثلج يدفع الواقفين بذراع ويسند بذراعه الأخرى دلو المشروبات الغازية صائحاً بطريقة منغمة على رنات إيقاع نقراته بمفتاح الكازوزة المعدني على الدلو الذى فوق كتفه (اشرب كازوزه) و(بيبس كولا بيبس) ..
كان القطار يستغرق حوالي الثلاث ساعات وأحياناً تزيد حسب التوقفات والأعطال ، والحق أقول لكم كنت رغم ضجر جميع من في القطار من طول وقت وصول كل إلى محطته ، ورغم زفرات أبي ونفخاته وتعقد خطوط وجهه الغاضب من طول المسافة وبطء القطار إلا أنني – على العكس – كنت اتمني ألايمر الوقت سريعاً وأن أظل هائماً ببصري في هذا الشجر الذي يمضي ببطء أو بسرعة إلى الخلف – حسب سرعة سير القطار – وخصوصاً شجر شعر البنات الذي تتدلي أعواده الخضراء المنسابة بكثافة لتتدلى على صفحة الماء كرأس امرأة مغطاة بأمواج الشعر الأخضر الغزير تركت شعرها منسدلاً في الماء يلعب في أطراف خصلاته الأوز العراقي والبط البكيني الأبيض وتقف علىه القمريات لثوان أو ترتاح عليه العصافير المتعبة ، ربما لذلك أسماه أهل الريف شجر (شعر البنات) .
، هذه السواقي الساكنة والسواقي التي تدور واشجار التوت التي تحرسها ، وهؤلاء الصبية الذين يخرجون دفعة واحدة من بين أعواد القطن في الغيطان إلى مشايات الترع ، وانصراف تفاصيل هذا العالم ليأتي عالم آخر بتفصيلات أخرى فأحياناً تمر بيوت طينية وأحياناً تمر بيوت أسمنتية بحوائط مزينة وڤراندات تطل على حدائق ، وأبراج حمام ملونة وأبراج حمام غير ملونة ، وأحياناً تمر الحقول المكتظة بأشجار الموز بأوراقها الخضراء العريضة وبأدغالها القاتمة العميقة أو حقول الذرة الناضجة بأحراشها المثيرة للفضول .
كنت أكره شيئين من الأشياء التي كنت أكرههما في طفولتي وصباي هما مغادرة القطار أو مغادرة قرية جدي لأمي رغم أن المغادرة الأخيرة كانت تعني موعداً جديداً مع قطار العودة الذي كان تختلف فيه مشاعري ويتغير مزاجي كلما اقترب القطار من الولوج وسط الحوائط الأسمنتية والبنايات المتفاوتة مابين المساكن والبيوت الشعبية والعمارات الشاهقة
كنا نذهب إلي القرية حيث جدى وجدتي لأمي وخالي صبحي وخالي الصعيدي وبقية أخوالي وأعمام أمي وخالتها وأولادهم ، وكان أبي يجلس معنا ليومين فقط أو ثلاث ثم يذهب إلي قرية أبيه البعيدة إلى أن تنتهي إجازته السنوية القصيرة فيعود هو إلى مسكننا بإمبابة ليباشر عمله ونظل نحن لأسبوعين أوثلاث ثم تلحق به أمي وشقيقاتي لأظل أنا الذي يتعهد خالي صبحي لوالدي أنه سيحضرني إلي القاهرة قبل أن يبدأ العام الدراسي بعد أن اتوسل للجميع أن أبقي معهم لأظل اركب الحمير واصطحب خالي في الصباح حينما يسحب ابقار جدى إلى الحقل وما إلى غير ذلك من تفاصيل حياة المزارعين التي كنت أعيش إجازتي الدراسية – كل عام – على هامشها وإن كنت لم أحول بصيرتي – يوماً ما – عن متنها ..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.