حميد زناز يكتب | التنوير في الجزائر

0

لم تظهر الظلامية مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر بداية التسعينات كما يبدو لأول وهلة بل هي نتيجة لسلسلة طويلة من المناورات السياسية والضبابية الأيديولوجية لدى من حكموا الجزائر منذ الاستقلال. فـ”الفيس” (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) هي في الحقيقة الابن الشرعي لـ”الأفلان” (حزب جبهة التحرير الوطني)، الحزب الواحد الذي حكم تحت مظلته من استولوا على الحكم بالقوة سنة 1962. هؤلاء الذين لم يكن يجمع بينهم سوى الرغبة في البقاء في الحكم وخليط من الأفكار العروبية والإسلامية والاشتراكية. وهذا العبث هو الذي انتهى إلى راديكالية دينية تغلغلت وسط قطاعات واسعة من الجماهير جاءت كرد فعل على الفشل متعدد الأبعاد الذي وصلت إليه الجزائر بعد أكثر من 30 سنة من الاستقلال إذ انتفض الجزائريون انتفاضة عنيفة ضد النظام الحاكم سنة 1988.
وقد خطف الانتفاضة الشعبية الإسلاميون المرابطون في المساجد والجمعيات الخيرية والجامعات منذ السبعينات بمباركة النظام الحاكم الذي كان يستعملهم لمقاومة الحركات اليسارية القوية آنذاك وقد تنازل في مواقف وسلوكيات كثيرة لإرضائهم فتغوّلوا وأرادوا التهامه في بداية التسعينات مع ازدياد شعبية جبهة الإنقاذ الإسلامية.
بدأ توليد الغول الإسلامي باعتماد مادة في كل الدساتير والمواثيق المتعاقبة تؤكد بأن دين الدولة هو الإسلام وهو الأمر الذي ابتز به الإسلاميون السلطة صارخين في وجهها دائما: بما أن الإسلام دين الدولة فطبقوه، طبقوا شريعته، طبقوا الدستور وطبعا هم لا يؤمنون سوى بهذه المادة التي تقدم لهم الحكم على طبق من ذهب وإلى الأبد.
وليس هذا فحسب بل قدم الرئيس هواري بومدين – الذي حكم البلد بيد من حديد من 1965 إلى 1978 والذي كان يرفع شعار الاشتراكية – المدرسة إلى العروبيين والإخوان المسلمين الذين أرسلهم له جمال عبدالناصر للتدريس في الجزائر ليتخلص منهم. ولم يكفه ذلك فقد عاوده الحنين إلى تكوينه الأزهري فأسس ما يسمّى بملتقيات الفكر الإسلامي والتي كانت بمثابة تجمع إسلامي سنوي يجتمع فيه ظلاميو العالم في الجزائر لأسلمة الجزائريين بأموال دولة الكولونيل العروبي الإسلامي الاشتراكي هواري بومدين الذي توفي وهو على كرسي الرئاسة بعد حكم فردي دام مدة 13 سنة كاملة.
وعلاوة على هذا التنازل الدستوري الخطير للإسلاميين أهداهم النظام سنة 1984 قانون أسرة مستمدا رأسا من الشريعة أو ما يسمّى كذلك وفي الوقت الذي كانت فيه ظاهرة تعدد الزوجات تضمحل نهائيا في البلد جاء هذا القانون المصادق عليه من طرف برلمان حزب جبهة التحرير لينفخ فيه الروح ويعطي للجزائري حق الزواج من أربع جزائريات علاوة على مواد كثيرة أخرى معادية للمرأة في قانون الأسرة ذاك. وفي تبريره للحفاظ على تعدد الزوجات قال الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة ذات عام بمناسبة محاولة إصلاح قانون الأسرة المجحف في حق المرأة: يمكن أن نجد صيغة ما للتعامل بها مع الأحاديث أما ما جاء في القرآن فلن أكون مخالفا لإرادة الله.

أما المدرسة فقد تركت فريسة في يد العروبيين والإسلاميين فعاثوا فيها فسادا لغويا وأيديولوجيا. لقد قضى العروبيون أو كادوا على اللغة الفرنسية التي كانت غنيمة حرب على حد تعبير الابن المشاكس للأدب الجزائري كاتب ياسين. قضوا عليها باعتماد تعريب متسرّع ومفرط أجهز على اللغتين معا. أما الإسلاميون وعلى رأسهم الإخوان فقد طردوا العقل من المدرسة ورسخوا التفكير الخرافي والعنف. مما جعل أحد الملاحظين يقول في بداية التسعينات إنه لو أخذت الجبهة الإسلامية الحكم لما كانت غيرت فاصلة واحدة من البرامج الدراسية التي كانت موجودة لأنها كانت منسجمة مع أيديولوجيتها الإسلامية المتطرفة. لم يكن سيد القمني مبالغا كثيرا حينما قال عن المدرسة في مصر إنها لا تعلّم سوى اللغة العربية والدين الإسلامي ولذلك لا نحسن اليوم سوى الكلام والصلاة.
ولا تبتعد المدرسة الجزائرية اليوم كثيرا عن أختها المصرية، فلا تتعدى وظيفتها مستوى التلقين كأنها جُعلت لتلعب دور التأحيد والاستنساخ لتخريج رعايا غير قادرين على التحليل والنقاش أو التفكير المستقل. يبدأ التلميذ مجرد متلقٍّ وينتهي منفِّذاً جيدا في أغلب الأحيان.
لقد تم خلال العشريات الأربع الماضية النزول بالمدرسة الجزائرية إلى مستوى الكُتّاب، أصبحت عقول الصغار تحشى بالأفكار المسبقة وتحوّلت المدرسة إلى شبه منشأة دعوية تحترف التزييف وتشميع العقول. وفي الحقيقة لا يطالب الإسلاميون اليوم سوى بما تعلموه في المدرسة سابقا.
وعلى نقيض كل أطفال العالم، يبدأ الطفل الجزائري حياته المدرسية بتعلم لغة شبه أجنبية وأجنبية تماما في المناطق الناطقة بالأمازيغية هي “العربية المكتوبة” غير الموجودة تماما في محيطه الدنيوي. استغل الأصوليون التعريب فأكملوا أسلمة اللغة العربية التي بدأتها بعثات الإخوان المسلمين المستوردة من مصر. وشيئا فشيئا ازداد انفصال كلمات اللغة العربية المؤسلمة عن أشياء الحياة الواقعية واستقلت تماما ولم تعد تعني شيئا في النهاية، فضاق العالم وازداد التقوقع وهي تربة يستفحل فيها سرطان الأصولية.

عاشت الجزائر مأساة عظمى راح ضحيتها الآلاف من المواطنين وعرف البلد سلوكيات عنف لا تخطر على بال إنسان ارتكبها إسلاميون إرهابيون في حق الناس الأبرياء، ولكن رغم أنهم هزموا على الأرض من طرف قوات الجيش الشعبي والمتطوعين حوّل بوتفليقة هزيمتهم العسكرية إلى نصر ثقافي فانتشر التطرف الديني أكثر فأكثر في المجتمع وابتعد عن الثقافة الإنسانية العلمانية وتأسلم المجتمع تأسلما يكاد يكون شاملا. وتم تحويل الدين إلى تضليل العامة وتحقيق المكاسب الشخصية فهذا يستثمر في الطب النبوي والآخر في عدم الخروج على طاعة الحاكم وهكذا..
ما لم يحلّ العالم والفيلسوف عندنا محلّ رجل الدين والإمام والداعية والراقي.. تبقى الظلامية متصاعدة والتنوير على الهامش والنزعة اللاهوتية مسيطرة والإرهاب على الأبواب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.