حيدر صادق يكتب | الثقافة المسرحية ضرورة مجتمعية (2-2)

0

استجاب المسرح للتحديات المعاصرة بتجارب مبتكرة فظهر المسرح التفاعلي الذي يمحو الحدود بين الخشبة والجمهور والمسرح الوثائقي الذي يخلط بين الواقع والخيال لمعالجة قضايا راهنة والمسرح الرقمي الذي يستخدم التقنيات الحديثة لخلق عواقع بصرية مذهلة لكنه يحافظ على الجوهر الإنساني كما ازدهر المسرح المستقل والبديل الذي يقدم أعمالا جريئة وتجريبية بعيدا عن القيود التجارية للمسارح الكبيرة .

في المجتمعات العربية يواصل المسرح دوره رغم الصعوبات المالية والسياسية والرقابية فهو يطرح قضايا مثل الحرية والعدالة الاجتماعية والصراع العربي الإسرائيلي والاستبداد والفساد وقضايا المرأة والشباب والهوية بين الأصالة والحداثة وكما قال احد الفلاسفة العظماء (اعطني خبزاً ومسرحاً اعطيك شعبا مثقفاً) وهنا تبين هذه المقولة الشهيرة أهمية المسرح كأهمية الخبز للجائع فالمسرح يغذي الانسان ثقافيا وفكريا ويجعله منفتح على الاخر لكن المسرح العربي يعاني من مشاكل هيكلية مثل ضعف التمويل وهيمنة النخب وضعف انتشار الثقافة المسرحية في التعليم والمجتمع .

مظاهر التشويه في المسرح التجاري العراقي….
لم يكن التشوه مجرد “نوعية نصوص”، بل كان **منهجية عمل** و**رؤية للفن** تظهر في مظاهر عديدة:
أولاً. التكرار والنمطية واللاقصة
تحولت العديد من العروض إلى قوالب جاهزة تُعاد مع تغييرات طفيفة. النموذج الأكثر شيوعاً كان مسرحيات “الفرقة” التي تعتمد على مجموعة من الممثلين الثابتين (غالباً ثنائي أو ثلاثي) يدورون في حلقات من المواقف المتكررة. الحبكة تكون بسيطة للغاية، تدور حول سوء فهم أو خدعة أو مطاردة، تتحول إلى سلسلة من “السكتشات” المترابطة بصورة ركيكة، هدفها الوحيد إضحاك الجمهور بأي ثمن. يختفي بناء الشخصية المعقد، وتتحول الشخصيات إلى “أقنعة” ثابتة: الزوج الغبي، الزوجة الثرثارة، الحماة الماكرة، الصديق المخادع.
مثال تقريبي (بدون ذكر أسماء أعمال محددة احتراماً للفنانين) مسرحية تدور حول شخص يحاول إخفاء خطأ صغير (كسر مزهرية) فيتحول الأمر إلى سلسلة من الأكاذيب والمواقف المحرجة التي تتضمن اختباء في خزانة، وتقليد أصوات، وملابس تنكرية سخيفة، وصراخ متبادل، ينتهي بكشف الحقيقة البسيطة وسط ضحك الجميع. التركيز كله على “الموقف الكوميدي” المباشر، دون أي عمق نفسي أو اجتماعي.

ثانياً. الاعتماد على الفكاهة الجسدية المُبتذلة والإيماءات المبالغ فيها (السلابستيك).
أصبح الضحك الهدف الوحيد، وتم استبدال الفكاهة الذكية القائمة على الحوار اللاذع أو الموقف الساخر، بفكاهة جسدية صارخة. تحولت الخشبة إلى ساحة للصراخ، والركل، والوقوع المتكرر، واللكمات الهوائية، والحركات الجنسية المُبتذلة المُضمّرة. لغة الجسد تحل محل لغة النص، وتتحول المهارة التمثيلية من فن إيجاد العمق في الشخصية إلى فن “إضحاك المشاهد بحركة غريبة”.

ثالثاً. استغلال الجسد الأنثوي والإيحاءات الجنسية الرخيصة
في محاولة لجذب الجمهور، لجأت بعض العروض إلى استغلال جسد الممثلة كأداة إغراءٍ رخيصة. لم يكن الوجود الأنثوي كشخصية فاعلة لها عمق ودور درامي، بل كـ “ديكور” مثير. تظهر الممثلة بملابس قصيرة أو ضيقة بشكل مبالغ فيه، في مشاهد لا تضيف للحبكة، هدفها الوحيد جذب الانتباه عبر الإثارة الحسية المباشرة، مما يهين المرأة ويُفقِد العمل فنيته ويحوله إلى سلعة بصرية.

رابعاً. تفكيك اللغة وتدمير الجمالية اللفظية
تهشّم أحد أهم أركان المسرح العربي الأصيل، وهو جمالية اللغة. استُبدل الحوار الأدبي البليغ، بلغة دارجة عامية شديدة التسطيح، مليئة بالألفاظ النابية أحياناً، والعبارات المكررة، والنكات المحلية المحدودة التي تفقد بريقها خارج إطارها الضيق. اختفت الشعرية والبلاغة، لتحل محلها لغة الشارع العادية دون أي تشذيب فني أو إضافة جمالية.

خامساً. الارتجال الفوضوي محل النص المُحكم
في المسرح الجاد، الارتجال قد يكون أداة تطوير في البروفات، لكن الأساس يبقى نصاً مكتوباً مُحكماً. في النمط التجاري، يُترك للممثلين حرية كبيرة في الارتجال على الخشبة، مما يؤدي إلى حوارات متكررة ومملة، وإطالة زمنية غير مبررة، وخروج عن الهدف الدرامي. يصبح الهدف هو “تمضية الوقت” و”ملء الفراغ” بضحكات سريعة، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير بنية العرض بالكامل.

سادساً. الإعلان المباشر والمنتجات
تحولت بعض العروض إلى منصة إعلانية مُقنّعة. يتم الترويج لمنتج تجاري (مطعم، مكمل غذائي، هاتف محمول) من خلال إدخاله قسراً في الحوار أو المشهد، في عملية تدمير كاملة “للحائط الرابع” (ذلك الحاجز الوهمي بين الممثلين والجمهور) وتفكيك للتجربة الإيهامية التي يقوم عليها جوهر الفن المسرحي.

الآثار المدمرة لهذا المسرح:
1. تشويه ذائقة الجمهور.. ربّى هذا المسرح جيلاً على أن الفن المسرحي هو مجرد “تسلية رخيصة” و”ضَحْكة عابرة”. قتل القدرة على التذوق الجمالي، والتأمل، وتلقي الأعمال المعقدة التي تطرح أسئلة.
2. إفقاد المسرح هيبته ومكانته.. تحول المسرح في الوعي الجمعي من منبر تنويري وفكري، إلى نشاطٍ ترفيهيٍ هامشي، لا يختلف عن كرة القدم أو برامج المسابقات التلفزيونية، بل قد يكون أقل شأناً.
3. تثبيط همم المبدعين الجادين.. وجد الكُتّاب والمخرجون الشباب الطموحون أنفسهم في مواجهة سوقٍ يرفض أعمالهم لأنها “معقدة” أو “حزينة” أو “بطيئة”. دفع هذا الكثيرين إلى الهجرة أو التخلي عن حلم المسرح الجاد، أو الانخراط في الموجة التجارية خضوعاً للضرورة.
4. عزل المسرح العراقي عن حركته العربية والعالمية.. بينما كان المسرح التجريبي والملتزم يتطور في العالم والعالم العربي، بقي جزء كبير من المشهد العراقي يدور في حلقة مفرغة من التكرار والابتذال، مما أفقده حضوره الريادي السابق.
وفي الختام يمكن القول إن المسرح يبقى فنا حيويا وضروريا للمجتمعات الإنسانية لأنه يذكرنا بإنسانيتنا المشتركة ويعلمنا أن ننظر إلى أنفسنا من الخارج ونتأمل في أعماقنا كما أنه يحافظ على مساحة للحلم والخيال والاحتمال في عالم يغلب عليه البرغماتية والمادية المسرح هو ذلك المكان السحري حيث يمكن للكلمات أن تغير العالم وللخيال أن يصنع واقعا جديدا وهو التجلي الأجمل للحوار الإنساني المستمر عبر العصور فطالما هناك بشر يطرحون أسئلة عن الوجود والعدل والحب والموت سيبقى المسرح ضرورة لا غنى عنها وفضاء لا يمكن استبداله لأعمق أنواع التواصل بين البشر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.