داليا التونسي تكتب | الانتخابات ووعي الأمة

0

في حياة الأمم لحظات فارقة، تكشف عن حقيقة العلاقة بين الدولة ومواطنيها، بين الحاكم والمحكوم، بين من يصوغ القرار ومن يتحمل تبعاته. وتأتي الانتخابات البرلمانية على رأس تلك اللحظات، لا بوصفها إجراءً تقنيًا أو استحقاقًا دوريًا، بل باعتبارها جوهر العملية الديمقراطية، وتجسيدًا صريحًا لفكرة المشاركة السياسية، التي تظل – في كل النظم – عنوانًا على نضج المجتمع، ومدى وعيه بدوره في صنع المستقبل.

الانتخابات، حين تُجرى في بيئة صحية، ليست ساحة تنافس بين مرشحين على مقعد، بل ميدان اختبار لمستوى وعي المواطن، وحيوية الأحزاب، واستقلالية المؤسسات. هي لحظة يُسأل فيها الفرد: هل تؤمن بدورك؟ وهل ترى أن صوتك يُحدث فرقًا؟ وهل تعتبر المشاركة واجبًا وطنيًا أم ترفًا سياسيًا؟

إن أهمية الانتخابات البرلمانية تتجاوز بكثير عملية اختيار النواب. فهي الأداة التي تتيح للمجتمع مراقبة السلطة التنفيذية عبر ممثلين منتخبين، وتُشرّع من خلالها القوانين التي تحكم علاقات الدولة بالمجتمع، وتُصاغ داخلها السياسات العامة التي تمس حياة الناس في تفاصيلها اليومية. وبالتالي، فإن العزوف عن المشاركة لا يعني سوى التنازل الطوعي عن التأثير، والتخلي عن أحد أبرز أدوات التغيير السلمي.

وقد نصّ الدستور المصري في مادته 102 على أن عدد أعضاء مجلس النواب لا يقل عن 450 عضوًا يُنتخبون بالاقتراع السري المباشر، مع جواز تعيين 5% بقرار جمهوري. وقد حدّد القانون النظام الانتخابي وآلية تقسيم الدوائر، مانحًا للمشرّع حرية اعتماد النظام الفردي أو القائمة أو المزج بينهما، بما يحقق التوازن والعدالة التمثيلية.

ويبلغ عدد النواب الحاليين 596 عضوًا، منهم 568 منتخبًا و28 معينًا. وتمثل المرأة 14.9% من الأعضاء، فيما تصل نسبة الشباب إلى 32.6%، وهي أرقام تحمل دلالات مهمة، لكنها لا تكفي وحدها ما لم تُترجم إلى أداء برلماني فعّال يعكس صوت الناس لا مجرد وجودهم.

إن ما يُميز الانتخابات البرلمانية في اللحظة المصرية الراهنة، أنها تأتي في ظل تحديات مركبة: اقتصادية واجتماعية وأمنية. وهي بالتالي فرصة لإعادة صياغة العلاقة بين المواطن ومؤسساته. فكل صوت انتخابي هو شهادة على وعي صاحبه، وكل ورقة اقتراع هي مساهمة مباشرة في رسم المسار السياسي للدولة.

لكن تبقى الإشكالية الكبرى كامنة في ضعف الوعي السياسي لدى قطاع غير قليل من المواطنين، الذين لا يزالون ينظرون إلى العملية الانتخابية بوصفها شأنًا خاصًا بالنخب أو وسيلة للخدمات لا منصة للسياسات. وهنا تأتي مسؤولية الأحزاب، ومؤسسات الدولة، ووسائل الإعلام، في تعزيز الوعي العام، والتأكيد على أن المشاركة السياسية ليست رفاهية، بل واجب وطني لا يقل عن الواجبات الأخرى.

لقد أثبتت التجربة، في مصر كما في غيرها، أن البرلمانات القوية لا تُمنح من فوق، بل تُنتزع من أسفل، عبر صناديق اقتراع حقيقية، ومشاركة شعبية واعية، تفرز نوابًا يشعرون بثقل الأمانة، لا براحة المقعد. لذلك فإن كل مقاطعة، وكل تراجع عن المشاركة، هو دعم غير مباشر لإضعاف المؤسسة التشريعية، وتفريغها من دورها المفترض.

إن الانتخابات المقبلة يجب أن تكون لحظة يقظة وطنية، تُستعاد فيها ثقة المواطن بنفسه أولًا، ثم بثقته في قدرته على التغيير. وليس هناك أداة لذلك أبلغ من صندوق الانتخاب: صغير في حجمه، لكنه كبير في أثره.

إنها ليست مجرد أوراق تُطبع، أو لجان تُفتح وتُغلق، بل تعبير عن وعي أمة تختار طريقها، وتُقرّر مستقبلها. والرهان الحقيقي في النهاية ليس على القوانين وحدها، ولا على الأحزاب بمفردها، بل على وعي المصري حين يمسك بقلمه، ويختار من يراه أقدر على حمل صوته، وحماية مستقبله.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.