داليا سعدالدين يكتب | إياح حتب .. الملكة المحاربة

0

ليس هذا حديثا عن مكانة المرأة فى الدولة المصرية القديمة؛ وإن كنا لا نرقى لتلك المكانة حتى يومنا هذا. ولا هو سردا تاريخيا لسيرة امرأة ذات شأن عظيم فى مجتمع قديم، وإن بدا كذلك، ذلك أنى أراه طرح عن التشارك الفعلى فى بناء مجتمع متكامل وقوى، وقت أن كان كل من الرجل والمرأة يقومان بدورهما الحقيقى فى تكامل عناصر المجتمع، كان هنالك بالفعل مجتمع متحضر، أو دعونا نقول أنه مجتمع سعى لتكامل عنصرى التحضر؛ إذ كان التقدير بين عنصرى ذلك المجتمع هو السائد آنذاك، تقدير لم يسمح بتدنى أحد العنصرين، فكلاهما يعمل على تقدم وتحضر، بل وقوة المجتمع الذى يتقاسمانه، فخلال مراحل الضعف والانحدار الحتمى لكل المجتمعات الإنسانية بعد اعتلاء قمة الحضارة، حيث إدرك المجتمع المصرى فى مرحلة من مراحل انحداره الحضارى أن القيادة السياسة والعسكرية هى إنسانية فى المقام الأول، وليست حكرا على عنصر مجتمعى واحد باعتبار نوعه؛ أى باعتبار كونه “ذكر”.
ليس ذلك كلاما مرسلا أو محاولة منى للدفاع عن مجتمع الأجداد؛ إذ كان اكتشاف تابوت الملكة “إياح حتب” بمطقة “دراع أبو النجا” سنة 1859، وما كان يعج به من أوسمة ونياشين عسكرية، يدل بشكل منطقى جدا على أن المجتمع المصرى القديم لم ير غضاضة فى القيادة العسكرية للمرأة خلال عصر الانتقال الثانى، والذى يعتقد أنه بدأ حوالى سنة 1786 ق.م وحتى سنة 1567 ق.م، مع سيطرة القبائل الرعوية المهاجرة من الشمال الشرقى على دلتا النيل وحتى منطقة مصر الوسطى، الذين عرفهم “مانيتون” بكون جنسهم كان يعرف فى مجموعه باسم “بالهكسوس”، فيما عرفهم المصريين قبل “مانيتون” نفسه باعتبارهم “حقاو خاسوت” أى حكام البرارى أو الصحارى.
فمع سيطرة تلك القبائل على مناطق مصر السفلى والوسطى وتأسيس عاصمتهم فى الدلتا على الفرع التانيسى القديم للنيل فى مدينة “حت وعرت” – صان الحجر حاليا – والتى عرفت فى اليونانية ياسم “أواريس” أو “أفاريس”، أقام ملوك الهكسوس علاقات دبلوماسية وتجارية طيبة مع ملوك النوبة فى”كوش” جنوبى مصر، ليتم لهم محاصرة أى محاولة للثورة تبدأ فى مصر العليا من قبل حكام الأسرة السابعة عشر فى “طيبة”، خاصة بعد محاولة كل من الملك المصرى “سنيب كاى” مؤسس الأسرة السادسة عشر فى “أبيدوس” فى سوهاج حاليا، والذى من المحتمل أنه استشهد فى حربه ضد الهكسوس حوالى سنة 1780 ق.م، ثم الملك “سقنن رع” من ملوك الأسرة السابعة عشر فى طيبة والذى استشهد حوالى 1555 ق.م، ومن وراءه استشهد ابنه الملك “كاموس” حوالى 1550 ق.م، هكذا كان منطقيا أن يحاصر ملوك الهكسوس محاولات الثورة فى مصر العليا من خلال اقامة علاقات طبية مع مملكة النوبة وقتها.
وخلال تلك الفترة بزغ نجم مليكتنا العظيمة “إياح حتب”، التى قدمت كل من زوجها “سقنن رع” وابنها الأكبر “كامس” فداء لتحرير وتوحيد مصر من قبضة الملوك الرعاة فى الدلتا، “فإياح حتب” هى إبنة الملكة المقدسة “تى تى شيرى” التى كانت من عامة الشعب، وربت أولادها من الملك “سنخت إن رع/ سقنن إن رع تاعا الأول” على مقاومة ومحاربة الغزاة، هكذا كانت نشأة “إياح حتب”، نشأة تقوم فى أساسها على الفداء بكل نفيس وغال من أجل تحرير الوطن.
فبعد استشهاد كل من زوجها وابنها الأكبر فى حرب التحرير، آلت مقاليد الحكم إلى “إياح حتب” بكونها وصية على ابنها الأصغر “إياح موسيس” أو “إحموس” كما هو النطق شائع لاسمه، وبالتالى كانت هى من يدير الحكم سياسيا وعسكريا فى البلاد خلال تلك الفترة، ويدل نقش فى معبد الكرنك يرجع لعصر الملك “إحموس الأول” نفسه يمجد فيه أعمال أمه الملكة “إياح حتب” باعتبار أنها هى من اخضع الهاربين وضمتهم تحت لواء الجيش المصرى، على أن تلك الملكة كانت بالفعل تمتلك فكرا عسكريا وسياسيا بعيد المدى، كما تدل الأوسمة والنياشين العسكرية التى وجدت فى تابوتها، والتى هى مطابقة لما وجد من نياشين فى تابوت زوجها “سقنن رع تاعا الثانى”، على احتمالية قوية لكونها قادت الجيش المصرى فى معارك حربية لتأمين الحدود الجنوبية، خاصة مع احتماليات تهديد مملكة “كوش” النوبية فى الجنوب لحدود “طيبة”، وهذا الاحتمال يرجحه القبض على جاسوس من الشمال خلال عهد الملك “كاموس”؛ إذ كان هذا الجاسوس فى طريقه لملاقاة ملك “كوش” حاملا له رسالة من حاكم “الهكسوس”، ليحددا موعد هجوم جيش النوبة على الحدود الجنوبية لمصر، فيكون بذلك متزامنا مع هجوم ملك الهكسوس من الشمال على جيش الملك “كاموس”.
كما أن وصايتها على الملك الصغير “إحموس”، الذى لم يكن قد تجاوز عامه العاشر وقت استشهاد أخيه الأكبر الملك “كامس”، يدل على كونها كانت بالفعل ملكة تمتلك عقلية سياسية وعسكرية فى آن واحد؛ إذ لم يمهل العمر كل من “سقنن رع” و”كامس” ليدربا الملك الصغير “إحموس” على فنون السياسة والحرب، وبالتالى فقد تولته الملكة “إياح حتب” نفسها بالرعاية والتربية السياسية والعسكرية ، ليصبح أحد أعظم القادة العسكريين فى تأسيس نمط جديد للاستراتيجيات العسكرية، الأمر الذى يذكرنا بالأسطورة المصرية القديمة للمقدس “حورس” الذى ربتاه كل من “حتحور ونفتيس” وعلمتاه فنون القتال ليحارب عمه “ست” الذى اغتصب عرش أبيه الملك “أوزير”.
وبالعودة لملكتنا العظيمة “إياح حتب”، فمن المحتمل أنها لم تكن لتتوارى فى الظل بعد اعتلاء الملك “إحموس الأول” للعرش وخلال حربه لتحرير الأرض من الحكام الرعاة – الـ “حقاو خاسوت” – إذ أرجح أنها كانت أحد أهم مستشارى الملك العسكريين، فمسألة تطوير أسلحة الجيش المصرى خلال تلك الفترة، من أقواس جديدة مركبة مصنوعة من طبقات من الخشب والقرون ومن أوتار شديدة، تتشابهة وأقواس الأعداء فى الشمال، وأيضا استخدام العربات التى تجرها الخيول فى الحرب، لم تكن تلك الأفكار لتأتى على بال الملك الشاب وهو ابن التسع عشرة ربيعا من فراغ، ومن غير تدريب ودراسة لأخطاء من سبقه من ملوك، وعليه فأرجح أن “إياح حتب” كانت المؤسس الحقيقى وراء تفكير “إحموس” السياسى والعسكرى، وبالتالى ما نتج عنه هذا التفكير من تطوير لفنون العسكرية المصرية بعد ذلك، ومن ثم تطوير استراتيجى لفكرة الدفاع عن البلاد، خاصة وأنه بعد طرده للـ “حقاو خاسوت” – الهكسوس – من كل ربوع مصر وإلغاءه لما أقروه من بيع للبشر كسلعة، حدث أن عادوا وهددوا الحدود الشمالية الشرقية من خلال حصنهم “شاروهين” فى فلسطين، الأمر الذى اضطر معه إلى محاصرة حصنهم وهزيمتهم مرة أخرى فى 1580 ق.م.، وضم تلك البقاع للحكم المصرى، وبالتالى تحول النمط الاستراتيجى للعسكرية المصرية لتأمين الحدود بأن يكون من خلال نقاط عسكرية خارج حدود مصر، وليس من داخل الحدود، حتى لا تؤدى هزيمته فى أى معركة إلى فقدانه جزء من الوطن.
مع تلك الاحتمالات التى طرحتها، يكون من المنطقى أن يسطر اسم “إياح حتب” كأحد أعظم المربين العسكريين، وبالتالى قد يكون من المنطقى جدا وجود القلادة الذهبية “للذبابات الثلاث”، التى هى أعلى نوط عسكرى فى الدولة المصرية القديمة؛ إذ كانت نوط الشجاعة والخدمات العسكرية الاستثنائية، فى تابوت “إياح حتب”، وهو الأمر الذى لم بحدث مع غيرها من ملكات مصر المحاربات.
كان ما سبق بعض الاحتمالات التى اطرحها من وجهة نظرى عن تاريخ ملكة أثرت فى التفكير العسكرى المصرى، مما أتاح بعد ذلك للملوك المحاربين العظام من أمثال “تحوتموس الثالث” ومن بعده “رمسيس الثانى” العمل على التطوير العسكرى لتأمين الحدود المصرية من خلال التأمين الخارجى لنقاط استراتيجية حيوية جدا فى كل المناطق المحيطة للوادى من جنوبه لشماله، ومن غربه لشرقه ما أدى إلى أن تكون مصر فى تلك الحقبة واحدة من أعظم الإمبراطوريات فى التاريخ.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.