داود السلمان يكتب | الحرمان الثقافي
المثقف هو الأكثر خطورة، على الأطلاق، من سواه أعني: من السياسي والحاكم وصاحب السلطة.
المثقف تخشاه كل هذه الشخصيات، وهذه المناصب، بل ويخشاه حتى رجل اللّاهوت المتنفّذ في كل عصر، فيحسب له ألف حساب؛ وتكمن خطورة المثقف من كونه، يعمل بصمد فيحرّك جذوة النار الهادئة بهذا الصّمت، ويخافه السياسي لأنّه يعرف المزاغل التي يدخل فيها هذا السياسي، والتي يخرج منها، ويخافه الحاكم كونه يؤلّب عليه الشعب، من خلال منشوراته ومحاضراته وأقواله التي ينشرها هنا وهناك، لأنّ المثقف دائمًا ما يقول الصواب، ويمس الواقع، وأعني به المثقف الحقيقي، لا المثقف المزيّف، أو الذي يدّعي الثقافة. فثمة من يلبس جلباب المثقف بهدف المنفعة الشخصيّة، فيتقرّب إلى السلطان فيعطي له المشورة لكي يحصل على المناصب واغداق الأموال والهدايا والمكاسب الأخرى.
المثقف الحقيقي لا تهمّه كلُّ هذه المكاسب، وكلُّ هذه الأشياء، لأنّه في غنى عنها، ورسالته إنسانية أكثر مما هي نفعية. رسالته تحقيق العدالة الإنسانية والاجتماعية، وأن تعيش الناس بسلام ووئام، وأن ينعم الجميع بالخير والسعادة؛ بينما المثقف المزيّف غايته الوصول، فهو الذي يسعى جادًا لكسب مناصب عليا في الدولة، وفي مركز القرار، وتحقيق سمعة وأن كانت هذه السمعة بالسحق على ضميره، أن كان له ضمير.
فالثقافة، إذن، سلاح ذو حدّين، ممكن أن تستعملها في الخير وممكن أن تستعملها في الشّر؛ ففي الخير هو أن تنفع الناس وتدلهم على أماكن الشرور حتى يتجنبوها، وفي الشر أن توجههم التوجيه الصحيح بتجنب مكامن الشر وتعلن عن خطورتها في تفتيت المجتمعات.
وأروع تعبير قرأته بهذا الصّدد هو هذه المقطوعة النثرية الجميلة، للروائي دوستويفسكي من رواية “في قبوي”، والتي يقول فيها:
“إن الحرمان الثقافي أشق احتمالًا من أقسى الآلام الجسمية. إن من يرسل إلى السجن من عامة الناس يجد نفسه في مجتمعه، بل ربما حتى في مجتمع أرقى. قد يفتقد كثيرًا ذلك الركن الذي ولد فيه وأسرته، ولكن بيئته تظل هي ذاتها. أما الرجل المثقف الذي حكم عليه القانون بالعقوبة نفسها التي حكم بها على رجل من عامة الشعب، فإنه يتألم بما لا يقاس بألم هذا الرجل الأخير، ينبغي عليه أن يخنق حاجاته، وجميع عاداته، ولابد أن ينزل إلى مستوى أدنى لا يرتضيه”.
الحرمان الثقافي هو الأمر الذي يحول بينك وبين مصادر الوعي التي تستمد منها معارفك: الثقافيّة والعلميّة والفلسفيّة، ذلك بإجبارك من الوصول إلى تلك المصادر، فيمنعك منها المتسلط عليك، سياسي ذلك المتسلط أو حاكم وقعت تحت سطوته، كدخولك في سجون أو تعرضك إلى منفى، أو غير ذلك.
وثمة فاعل آخر، ربما هو الأشد والأكثر بطشًا من سواه؛ ذلك الفاعل هو رجل اللّاهوت، الذي يستلبه وعيه ويحرفه عن جادة المعرفة، حيث ينفخ في أوداجه من ترهاته، ويشحنه بالغيبيات، ويحول بينه وبين القراءة والاطلاع، ذلك بتسفيه العلوم العقلية، من فلسفة ومنطق وعلم الكلام وسوى ذلك، حتى يكرهه هذه العلوم والمعارف كي لا يصل الى كنُه الحقيقة المنشودة، فيظل شادًا رحاله إلى ذلك الشبح، الذي يصف تلك العلوم من صُنع (عبّاد الشياطين).
وإذا غاص المرؤ في موج الحرمان المعرفي، فسيبقى عائمًا في بحر الجهالة والخرافة، ويظل رجل اللاهوت يحركه يمينًا وشمالاً، كما يحرك الطفل الدمى.