داود السلمان يكتب | كتّاب شكلوا علامة فارقة (1-5)

0

لكلّ باحث وكاتب بل ومثقف، ثمّة أسماء شكلت في حياته منعطفاً، لا نقول خطيرًا، بل منعطفًا رأى فيه (الكاتب) أنّه شكّل علامة فارقة، في بحوثة ورياضته الماراثونية الفكرية بهدف الوصول إلى الحقيقة، ومسكها من تلابيبها، وهو ديدن كلّ باحث وكاتب. ولهذا الباحث أو الكاتب لا بد من كتّاب كبار تأثر بهم، وشكلوا لديه هذا المنعطف.
وفي هذا المقال سأذكر عشر كتّاب قرأت لهم وأعُجبت بهم أيما إعجاب، بل أستطيع القول أنهم غيروا الشيء الكثير من حياتي، فقد شغفت باسلوبهم في الكتابة لديهم، وفي بيانهم لما يرومون طرحه من تبيان، من فكر أو رأي أو نظرية.
وهنا، أذكرهم ليس من باب التسلسل الزمني، بل من باب درجة التأثير الثقافي والنفسي والمزاجي في نفسي أنا، ولبساطة ما أكتبه وما أنشره، هنا وهناك. وأليت على نفسي أن أختصر لا أطيل في الحديث أو أفصّل.
1: نيتشة
الكاتب والفيلسوف الألماني الكبير نيتشة، فقد قرأت أكثر أعماله تقريبًا، وكذلك قرأت ما كُتب عنه عشرات الكتب والدراسات والمقالات، لمختلف الكتاب: عالميين وعرب.
فأسلوب نيتشة، في الكتابة، يمتاز بالسلاسة وبالجاذبية، وبالحنكة والاقناع، وبالأسلوب غير الممل، لأنّ أسلوبه منفرد به، وطريقة طرحه تختلف عن الآخرين من الكتّاب ومن الفلاسفة، الذين يتخذون الغموض والرمزية، وكثرة المصطلحات، الفلسفية والعلمية، التي يتقصد بعضهم أن يضعها في كتاباته، للإيهام ولغيره.
نيتشة كان صريحًا في طرح آراءه، أي أنه لا يلف ويدور في الموضوع الذي يريد يطرحه، فهو عكس هيغل على سبيل المثال، فهذا الفيلسوف الألماني الذي عرف بصعوبة كتاباته، وعدم هضمها بسهولة، الأمر الذي جعل مني أن أنهزم من كتاباته هروب الشاة من الذئب، لأنها عسيرة جدًا، وهزيمتي هذه اعتقد ليست بعيب، لأنّ كثير من الكتاب والفلاسفة عانوا من عدم فهمهم لكتابات هذا الفيلسوف. فطرح نيتشة مختلف جدّا عن طرح هيغل، وربما كان هذا أحد الأسباب التي رغبتني بنيتشة.
وفضلا عن كل هذا، فأنّ نيتشة كان صرحًا عملاقًا، فهو لم يخف من السلطة ولا من رجالات الدين، فكان يبغضهم ويشتمهم على رؤوس الأشهاد، وحتى لما مات أوصى أخته الوحيدة، قائلا لها أنّ لا يقربوا جنازته ويتلون عليها ترهاتهم وأباطيلهم في الوقت الذي لم يستطع أن يدافع عن نفسه، بحسب تعبيره.
ومن شجاعته، أنّه قال بموت الإله، قالها غير خائفًا ولا وجلاً، والبعض فسّر، مقولته هذه، على أن المقصود بالإله، هو إله رجال الدين (حيث أنّ رجال الدين استغلوا الدين لمصالحهم الخاصة، ونصّبوا أنفسهم ناطقين باسم الإله، فالإله الذي يتبعونه إله نفعي) لا إله السماء، وقال آخرون بل المقصود الإله عموما، حتى أتهموه بأنه ملحدًا عنيدًا. لكن كتاباته كانت من العيار الثقيل، إن صح تعبيري هذا، وأقصد بذلك كانت كتابات تفي بالغرض، وتحيط بالموضوع احاطة تامة، ولها عمق كبير وبُعد آخر، بحيث القارئ لا يشعر بالملل وهو يتجوّل بهذه البساتين الغنّاء، التي تعج بثمار الفكر والأدب والفلسفة.
فالنتاج الفكري الذي تركه نيتشة للأجيال القادمة، ثرًا عظيمًا، أغنى به المكتبات العالمية والعربية، وأما الدراسات النقدية التي تناولته، فمن الصعب الاحاطة بها.

2: فرويد
في اعترافاته قال فرويد أنّه تعلم التحليل النفسي من الكاتب والروائي الكبير دوستويفسكي، ذلك من خلال الشخوص التي وضعها كأبطال في رواياته، ثم قام بتحليل نفسياتهم. وهذه التفاته جدُ عظيمة من فرويد، تنم عن ذكاء مفرط وعبقرية فذة.
لاحظت كثير من الكتّاب، من الذين كتب في الشأن الفلسفي، أنهم اعدوا فريد فيلسوفًا!، بينما الحقيقة أنّ هذا الرجل هو ليس كذلك، بل ولا يميل إلى الفلاسفة قيد أنملة، صحيح إنّه قرأ لبعضهم لكنّه لم يحبهم، بحسب تعبير أحد الكتاب من الذين كتبوا عن فرويد ودرسوا حياته ومنجزه الفكري، بل أنّ فرويد هو محلل نفسي، والصحيح هو الذي أسس علم “التحليل النفسي” فهو لكونه طبيب فقد درس نفسية الإنسان وطفق يحلل ويدرس ويفكر ويمعن النظر، ثم أخذ آراء واستشارات من بعض الذين يثق بهم، وهم قلة.
فرويد قاتل قتالاً شديدًا في إيصال نظريته في التحليل النفسي، هذه، إذ حورب في حينها وشُنت عليه حملات اعتراضية تندد بهذه النظرية التي مازالت في مهدها حينئذ، في سبيل ثني عزمه، لكنّه صمدَ ووقف بشموخ، حتى حقق انتصاره بشيوع نظريته، وبقبولها في الأوساط العلمية والثقافية والأدبية.
ما أعجبني بفرويد هو اصراره وتفانيه وثقته بنفسه، وبشجاعته الفذة على الاندفاع إلى الأمام، ضاربًا التحديات والمعارضة عرض الجدار، طالما أنه متيقنًا بأن الجولة الأخيرة ستكون له، وأن هذه النظرية التي ابدعها ستأخذ مجالها وتضيء بنورها دياجي الظلام، رفض الآخرون أم رضوا.
قرأت لفرويد الكثير من كتبه، إلّا أن بعض كتبه أثرت في نفسي تأثرًا كبيرًا، وقلبت حياتي رأسًا على عقب، وهذه الكتب هي (مستقبل وهم، قلق في الحضارة، الطوطم والتابو، الهذيان والأحلام في الفن، وموسى والتوحيد).
في الكتابين الأولين، أعني مستقبل وهم، وقلق في الحضارة، يعطي فرويد رأيه الصريح في الدين، ويعتبر الدين مرض نفسي عصابي، لذلك تجد المصاب بهذا الداء لا يستطيع الفكاك منه، وعلاجه من الأمور المستعصية، بشرط واحد، ألا وهو: إذا كان للشخص المعني استعداد تام للخلاص من هذا الداء الوبيل، وعليه من كان لهم الشجاعة والاقدام، استطاعوا أن يتخلوا منه ويكتسبون الشفاء التام.
ومن ذلك، يبين فرويد أن الإنسان أبو بيئته، يعني الذي يولد في بيئة معينة يكتسب كل ثقافتها، ذلك فأن مجتمع تلك البيئة يملأ عليه ما يريد هو لا ما يُريد المولود فيها، والطامة الكبرى أن هذا الشّخص يبقى يدافع عن تلك الثقافة ما دام حيًا، ويُعدها من المسلمات، معتبر إياها الحقيقة المطلقة، وسواها الضلال المبين.
فدعوة فرويد إلى كلَ البشر، أن يحاولوا، جهد امكانهم، التمرّد على تلك الثقافة المكتسبة، ويلتجؤون إلى ثقافة أخرى، يتعلمونها ويغوصون في اعماقها، ثم بعد ذلك يقارنون ما بين الثقافتين، فسيرون إن البون شاسع.
ودليل فرويد على أنّ الشّخص، كائن من يكون، الذي لا يمتلك الشجاعة الكافية في سبيل التحرر من عقدة الماضي، فهو إنسان مريض نفسيًا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.