د. أحمد حسن عمر يكتب | مكانه العمل كعبادة
كان من أسباب تأخر العرب عن الحضارات الأخرى في الجاهلية، احتقارهم للعمل اليدوي الذي أطلقوا عليه (المهنة) من الامتهان، فلا يعمل في المهن كالنجارة والحدادة والزراعة والحراثة والفلاحة إلا العبيد، فكان سادة العرب لا يعملون إلا في التجارة، حيث الربح الوفير بأقل مجهود، مما غذى فكرة شرف الكسل واحتقار العمل، وجاء الإسلام ليجتث كل هذه المفاهيم السلبية الخاطئة، فجعل الإيمان والعمل متلازمين في وقت كان الإيمان مشكوكاً به وكان العمل محتقرا، لتأكيد أن العلاقة علاقة مصيرية لا فصل بينهما، وأكثر القرآن من آيات العمل.
وتكمن أهمية العمل في أنّه يكفل للإنسان الحفاظ على كرامته، ويفتح له الآفاق الكثيرة حتى يتطوّر وينمو في عمله ويُصبح شخصًا فاعلًا لا يحتاج إلى أيّ معيل بعد الله، ولهذا فإنّ العمل عبادة وليس مجرّد حاجة حيوية للإنسان، بل إن العامل يأخذ أجرًا من الله تعالى لأنه سعى لتحصيل رزقه، ولم يقف مكتوف الأيدي، فالأنبياء عليهم السلام جميعًا كانوا يعملون بأيديهم، وكانت لهم مهن يمارسونها، ولم يرد أن كان أحد الأنبياء أو الرسل لا يملك حرفة أو مهنة يكسب منها قوته حتى وهم يؤدون رسالاتهم، وقد عمل الكثير منهم في رعي الغنم، وقد جاءت الحكمة من العمل لعدة أسباب تتمثل فى الآتى:
• التأكيد على مكانة العمل ليس كوسيلة لكسب الرزق فقط وإنما هو وسيلة للإصلاح في الأرض وإعمارها.
• الاقتداء بالأنبياء والمرسلين في إتقانهم للعمل والإخلاص فيه.
• استخدام الموارد التي سخرها الله للإنسان فيما يفيده ويفيد غيره.
• الرحمة والرفق بالمخلوقات
بعد هبوط سيدنا آدم علية السلام من الجنه إلى الأرض هو وزوجته حواء، لم يكن يعرف الا الأسماء التى تعلمها من الله سبحانه وتعالى وكان من ضروريات الحياه أن يبحثا على مصدر للرزق حتى يستمرا في العيش على سطح الأرض، فاتجه آدم إلى حرث الأرض وزراعتها وكان يصنع بيده كل ما يساعده في الزراعة من معدات ، حيث كان يصنعها من الخشب.
أما إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام فقد امتهنا مهنة البناء، حيث قاما برفع قواعد البيت الحرام بمكه وقاما ببناء المسجد الحرام بأوامر من الله تعالى.
فى حين عمل موسى عليه السلام كراع للأغنام عند شعيب عليه السلام لمدة عشر سنوات بعد ان تزوج ابنته وقد كان ذلك مقابل المأكل والمشرب والمسكن، وذلك بعد أن هرب من فرعون.
وعمل عيسى عليه السلام بمهنة الطب، حيث كان يبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ويحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، وكان يوسف عليه السلام يعمل مفسرا للأحلام ومستشارا ووزيرا وقاضيا.
اما داود علية السلام فسخر الله سبحانه وتعالى لع الحديد ، فكان يلين في يده ويشكله مثلما يشكل الطين، وقد احترف صناعة الأسلحة والدروع الحربية.
وعمل نوح عليه السلام كراع للأغنام، ولكن مهنته الأساسية كانت النجارة، وقد أمره الله سبحانه وتعالى بصناعة سفينة كانت أعظم السفن التي عرفها التاريخ القديم والحديث. بينما كان صالح عليه السلام مربيًا لقطعان الجمال، وكان يشرب من لبن النوق ويبيعه ليكسب قوت يومه.
• وعمل عمل أيوب عليه السلام في الزراعة، فكان مزراعا بارعا، بينما كان كان لوط عليه السلام رحالة ومؤرخا. فى حين كان إدريس عليه السلام يعمل بالخياطة، حيث أنه أول من صنع الملابس واخترع الإبرة ومرر الخيط فيها وأول من خط بالقلم فتعلم الكتابة وكذلك علم الفلك والحساب والكواكب، وكان يجيد 722 لغة، وامتهن هود عليه السلام مهنة التجارة وكان رائد التجار جميعا.
• كما كان سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم يعمل في رعاية الاغنام في مكة المكرمة حتى بلغ التاسعة من عمره، حيث سافر مع عمه أبو طالب بعدها للتجارة فتعلمها وكان بارعا بها وأمينا في تعاملاته، وقد أدار تجارة السيدة خديجة التي كانت من أثرياء قريش فزاد تجارته أموالها وفرة وبركة.
وقد اهتم السلف الصالح بالعمل وحثوا عليه؛ فكان الإمام احمد ابن حنبل يرى ضرورة العمل ليعين المرء نفسه وعياله، وقال له رجل: إن لى كفاية, قال: الزم السوق تصل به الرحم وتعد به على نفسك. وقال: لا ينبغي أن تدع العمل وتنتظر ما بيد الناس, وقال عمن فعل هذا: هم مبتدعة قوم سوء يريدون تعطيل الدنيا.
والجدير بالذكر أدراك المصريون على مر العصور والأزمان، لقيمة العمل فعملوا بجد واجتهاد، جيلًا بعد جيل فعلا شأنهم، وازدهرت حضارتهم، وسبقوا بذلك كل الأمم.
ومن ثم فان العمل يعتبر الوسيلة الوحيدة لتعمير الأرض ومهما كان نوع العمل فهو مهمّ للإنسانية فالزراعه والصناعة لا تختلف في قيمتها ودورها عن الهندسة والطبّ مادامت كلّها من أجل تحقيق سعادة الفرد وازدهار المجتمع، لذلك كل فرد في المجتمع مطالب بالعمل والاجتهاد والكدّ في ميدانه وتكريس نفسه وجهوده للمهمة المنوطة به للبلوغ بها إلى أرقى درجات الإتقان، فتلك هي الطريقة الوحيدة إلى السعادة إذ لا سعادة إلاّ بالعمل.
وبالرغم من أن القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة يدعوننا إلى العمل باتفانٍ واخلاص وإلى كسب الرزق بالكد فى العمل، إلا أننا لا نرى أثراً فعالاً لتلك الدعوة بين الناس ومنهم من يتجه للشحاته والتسول كمصدر سهل للرزق الواسع والسريع، وليس لديها آليات مستدامة لإعلاء قيمة العمل وغرس أخلاقياته في نفوس البراعم.