د.أحمد حفظي يكتب | هجرة العقول البيضاء

0

في الوقت الذي تعاني فيه المنظومة الصحية المصرية من تحديات جسيمة، تتفاقم أزمة خطيرة تهدد أساسها البشري، وهي ظاهرة هجرة الأطباء المصريين إلى الخارج. لم تعد هذه الظاهرة مجرد حالات فردية، بل أصبحت نزيفًا جماعيًا يضعف قدرة الدولة على تقديم خدمة صحية عادلة وكفؤة للمواطن المصري.
تشير تقارير نقابة الأطباء إلى أن أكثر من 11,500 طبيب قدموا استقالاتهم خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وسط توقعات بزيادة الأعداد في ظل غياب حلول جذرية. وتُظهر الإحصاءات الرسمية أن عدد الأطباء العاملين فعليًا داخل البلاد لا يتجاوز ثلث عدد الأطباء المسجلين، ما أدى إلى نقص حاد في التخصصات الحرجة مثل التخدير والعناية المركزة والطوارئ.

تتعدد الأسباب،لهجرة الطبيب المصري اهمها:

ضعف الرواتب: يتقاضى الطبيب حديث التخرج حوالي 3,000 جنيه شهريًا، وهو رقم لا يغطي الحد الأدنى من المعيشة.

نقص الإمكانيات: المستشفيات الحكومية تفتقر إلى أجهزة حديثة، ومستلزمات ضرورية، ما يعرقل عمل الطبيب ويعرّضه للمساءلة دون ذنب.

انعدام بيئة العمل الآمنة: كثير من الأطباء يتعرضون للاعتداء اللفظي أو الجسدي داخل مقار عملهم، دون حماية قانونية كافية.

غياب مسارات التطوير المهني: يعاني الأطباء من نقص فرص التدريب والتأهيل المستمر، مقارنة بما توفره الأنظمة الصحية في الدول المتقدمة أو حتى في بعض الدول العربية.

والنتيجة الطبيعية لهذا النزيف البشري هي تدهور جودة الرعاية الصحية. المواطن أصبح يدفع الثمن، سواء من خلال قوائم الانتظار الطويلة، أو نقص التخصصات في المستشفيات، أو الضغط الكبير الواقع على الأطباء المتبقين. في المقابل، تُفتح أبواب دول الخليج وأوروبا وكندا لأطباءنا، وتوفر لهم رواتب مجزية وبيئة احترافية جاذبة.

فالحفاظ على الطبيب المصري لم يعد خيارًا، بل ضرورة وطنية. وهنا تبرز أهمية وضع خطة استراتيجية شاملة تتضمن:
تحسين أجور الأطباء بشكل فوري وربطها بمعدلات التضخم،تطوير بيئة العمل في المستشفيات، وتوفير الأجهزة والمستلزمات الطبية،إطلاق برامج تدريبية مستمرة، بالتعاون مع مؤسسات دولية،سن تشريعات لحماية الأطباء داخل بيئة العمل، وتعزيز احترامهم اجتماعيًا ومهنيًا،وضع حوافز حقيقية لعودة الأطباء المصريين من الخارج، عبر تسهيلات مالية ومهنية.

وتعدأزمة هجرة الأطباء ليست مجرد أزمة مهنية أو مطلبية، بل هي انعكاس عميق لخلل في أولوياتنا الوطنية. فحين يُجبر الطبيب — الذي أنفق سنوات من عمره في الدراسة والتدريب — على الهجرة بحثًا عن الحد الأدنى من التقدير والكرامة، فإن ذلك مؤشر خطير على ما آل إليه واقعنا.
لا يجب أن ننظر إلى الطبيب على أنه موظف عادي، بل هو الخط الأول للدفاع عن صحة المواطن، والسند وقت الأزمات، كما رأينا في جائحة كورونا. إن كرامة الطبيب هي كرامة للمريض، واستقراره هو استقرار للمجتمع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.