د.أحمد يحيي يكتب | مصر والدبلوماسية الرقمية

0

شهد ‌العالم تحولاً جذرياً في طبيعة العلاقات الدولية وآليات التواصل بين الدول، لم تعد
‌السياسات الخارجية تعتمد فقط على اللقاءات الدبلوماسية المغلقة والخطابات
‌الرسمية، بل أصبحت المنصات الرقمية جزءاً أساسياً من أدوات التأثير وبناء
‌الصورة الذهنية للدولة، فيما يُعرف اليوم بـ”الدبلوماسية الرقمية”.
‌الدبلوماسية الرقمية هي ببساطة استخدام التكنولوجيا الحديثة، لاسيما الإنترنت
‌ومنصات التواصل الاجتماعي، لتحقيق أهداف السياسة الخارجية والتواصل مع
‌الشعوب والجماهير خارج حدود الدولة. وهي لم تعد ترفًا أو خياراً إضافياً ، بل
‌أصبحت ركيزة أساسية في صناعة النفوذ والتأثير، وتفرض نفسها على الدول التي
‌تسعى إلى حماية مصالحها أو ترويج قيمها ورؤاها عالمياً.
‌ما يميز هذا النوع من الدبلوماسية هو القدرة على التفاعل المباشر مع الرأي العام
‌الدولي، فمن خلال تغريدة واحدة، يمكن لرئيس دولة أن يعبّر عن موقف بلاده في
‌أزمة دولية، أو أن يرد على هجوم إعلامي، أو حتى أن يفتح قناة تواصل مع شباب
‌من دول بعيدة، هذا الشكل من الحضور لم يكن ممكنًا في الدبلوماسية التقليدية
‌التي كانت تعتمد على المذكرات الرسمية واللقاءات المغلقة.
‌وقد تغيرت خارطة الفاعلين في المجال الدبلوماسي بفضل هذا التحول، فإلى جانب
‌وزارات الخارجية، أصبح السفراء، ورؤساء الدول، والمتحدثون الرسميون، بل
‌وحتى الوزارات غير السيادية، يلعبون أدوارًا مهمة عبر حساباتهم الرسمية على
‌المنصات الرقمية. كما برزت وحدات متخصصة داخل بعض وزارات الخارجية
‌لإدارة المحتوى الرقمي، كما هو الحال في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، مما
‌يعكس حجم الأهمية التي باتت تُعطى لهذا المجال.
‌لكن هذا التقدم لا يخلو من تحديات. فمع الانتشار الهائل للمعلومات، بات من السهل
‌ترويج الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة التي قد تسيء إلى صورة الدول وتشوّه
‌مواقفها. كما تشكل الهجمات السيبرانية خطراً حقيقياً على الحسابات الرسمية، ما
‌يتطلب استثمارات كبيرة في أمن المعلومات، ولا يقل خطراً عن ذلك صعوبة
‌الموازنة بين سرعة التفاعل الرقمي، والدقة المطلوبة في الخطاب السياسي، إذ
‌يمكن لأي زلة لفظية أن تتحول إلى أزمة دبلوماسية خلال دقائق.
‌وفي هذا السياق، برز دور الدولة المصرية في السنوات الأخيرة كمثال على السعي
‌لتوظيف الدبلوماسية الرقمية ضمن أدوات القوة الناعمة. عملت مصر على تطوير
‌حضور رقمي فعّال لوزارة الخارجية وسفاراتها في الخارج عبر منصات التواصل
‌الاجتماعي، حيث يتم نشر المواقف الرسمية، وتغطية نشاطات الدولة، والتفاعل مع
‌الجاليات المصرية، وتوضيح السياسات تجاه القضايا الإقليمية والدولية.
قامت مصر بعدة مبادرات وأمثلة بارزة في هذا السياق، منها:
‌إطلاق حسابات رسمية متعددة اللغات لوزارة الخارجية المصرية على منصات مثل
‌تويتر وفيسبوك، لتخاطب مختلف الشعوب بلغاتهم، وتشرح وجهات النظر المصرية
‌في قضايا مثل سد النهضة، والقضية الفلسطينية، والأمن الإقليمي، بالاضافة إلى
من الواضح أن من يملك الكلمة المؤثرة في الفضاء الرقمي اليوم، يملك سلاحاً
‌جديداً في معركة النفوذ والتأثير، فالدبلوماسية الرقمية لا تقتصر على الظهور، بل
‌تتطلب استراتيجية، واحترافاً، وقدرة على قراءة الجمهور، وصياغة الرسائل
‌المناسبة، وتوظيف الأحداث لصالح الدولة، وفي عالم تتسابق فيه الدول على كسب
‌العقول والقلوب، تظل الكفاءة الرقمية عنصرًا حاسمًا في مستقبل السياسة الدولية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.