د. حمدي سيد = العقل العربي.. من التلقين للإبداع

0

يمثل بناء نموذج معرفي عربي مستقل تحديًا عميق الجذور ومتعدد الأوجه، يتجاوز مجرد نقص الأدوات المنهجية ليلامس صميم الأطر المرجعية التي تشكل رؤيتنا للعالم وأنماط تفكيرنا. فالإشكالية المركزية تكمن في هذا التداخل المعقد بين إرث استعماري ترك بصماته على مناهجنا وأساليب بحثنا، وبين نزعة محافظة قد تدفع نحو استنساخ التراث دون مساءلة نقدية أو محاولة لتجاوزه في سياقاتنا المعاصرة.

 هذه الثنائية، بين التبعية والتكرار، تُنتج حالة من الشلل الفكري، حيث تغيب الأصالة والقدرة على إنتاج مفاهيم وأدوات تحليلية نابعة من واقعنا الخاص وقادرة على استيعاب تعقيداته.

يزداد هذا المأزق تعقيدًا مع تلك الفجوة المتسعة بين إنتاج المعرفة في العلوم الإنسانية وبين الواقع المعيش بكل تحولاته وتحدياته. لقد تحولت أجزاء واسعة من البحث الأكاديمي إلى ممارسة نظرية مجردة، تهتم بالتنظير لذاته أو بتطبيق نماذج مستوردة بشكل غير نقدي، مما أدى إلى انفصالها عن القضايا الحقيقية التي تواجه مجتمعاتنا وتعيق تقدمها. هذا الانفصال يترتب عليه تهميش دور المثقف العربي في الحياة العامة، وتحويل المؤسسة الأكاديمية إلى جزر منعزلة عن الديناميات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تشكل واقعنا. وبالتالي، تفقد المعرفة المنتجة قدرتها على التأثير والتغيير، وتصبح مجرد ترف نظري لا يلامس حياة الناس وتطلعاتهم.
ومع ذلك، فإن هذه الصورة القاتمة لا تعني استسلامًا محتومًا. فإمكانية بناء نموذج معرفي عربي مستقل تظل قائمة، لكنها مشروطة بتوفر إرادة نقدية حقيقية وشاملة. هذه الإرادة يجب أن تتجلى في مراجعة جذرية للمفاهيم والأطر النظرية السائدة، وتفكيك الأسس التي تقوم عليها التبعية الفكرية. إنها تتطلب شجاعة في مساءلة المسلمات، وتجاوز التلقين، والانطلاق نحو تفكير أصيل ينبع من فهم عميق لتاريخنا وخصوصيتنا الثقافية، ولكنه في الوقت نفسه منفتح على كل ما هو جديد ومفيد في التجارب الإنسانية الأخرى.
إن إعادة صلة الفكر بالواقع المعيش تمثل شرطًا أساسيًا لنجاح هذا المشروع. يجب أن تنخرط العلوم الإنسانية والاجتماعية بشكل فعال في دراسة وفهم التحديات التي تواجه مجتمعاتنا، وأن تسعى لتقديم حلول عملية ومبتكرة لهذه التحديات. هذا يتطلب تحولًا في طبيعة البحث الأكاديمي، من التركيز على التنظير المجرد إلى الانخراط في دراسات ميدانية معمقة، وإقامة شراكات حقيقية مع المؤسسات المجتمعية المختلفة، والاستماع إلى أصوات الفاعلين على أرض الواقع.
كما أن الدمج الخلاق بين الإرث الثقافي والحداثة يمثل ركيزة أساسية في بناء هذا النموذج المعرفي المستقل. لا يعني ذلك الانكفاء على الماضي أو رفض كل ما هو حديث، بل يعني فهم تراثنا بعمق ونقد، واستخلاص العناصر القادرة على إثراء حاضرنا ومستقبلنا، ثم التفاعل مع الحداثة بشكل انتقائي ومبدع، بحيث نستوعب منجزاتها ونكيفها لتناسب سياقاتنا وقيمنا. إنها عملية توليف حضاري تهدف إلى بناء هوية معرفية عربية أصيلة ومتجددة في آن معًا.
إن تأسيس هذا النموذج المعرفي ليس مجرد أمنية أو شعارًا، بل هو مشروع يتطلب عملًا مؤسساتيًا دؤوبًا وصبرًا استراتيجيًا. يحتاج إلى بناء مؤسسات بحثية قوية ومستقلة، ودعم الباحثين والمفكرين، وتشجيع الحوار والنقد البناء، وتوفير البيئة المناسبة لإنتاج ونشر المعرفة الأصيلة. كما يتطلب تفاعلًا جدليًا وحقيقيًا بين المثقف والدولة والمجتمع، حيث يضطلع كل طرف بمسؤولياته في دعم البحث العلمي وتشجيع التفكير النقدي وتوظيف المعرفة في خدمة التنمية والتقدم.
فقط من خلال هذا التأسيس الصبور، والبناء المؤسساتي المتين، والتفاعل الحيوي بين مختلف الفاعلين، يمكن أن نأمل في ولادة حداثة عربية حقيقية، حداثة لا تستنسخ نماذج الآخرين بشكل سطحي، ولا تنغلق على الذات في عزلة تاريخية، بل تؤسس لوجود معرفي عربي متجذر في تربته الثقافية، ومنفتح على آفاق المستقبل بكل ما يحمله من تحديات وفرص. إنها حداثة قادرة على الإسهام بفاعلية في بناء الحضارة الإنسانية، وتقديم رؤى ومفاهيم جديدة تثري النقاش العالمي وتساهم في حل المشكلات المشتركة التي تواجه عالمنا المعاصر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.