د. حمدي سيد يكتب | برمجة الضمير.. الأخلاق والخوارزميات

0

في قلب التحولات الرقمية المعاصرة، تتبلور واحدة من أكثر الإشكاليات تعقيدًا وحساسية في علاقة الإنسان بالتكنولوجيا، وهي إشكالية “برمجة الأخلاق” أو ما يُعرف بالحوسبة الأخلاقية. إن إدماج المبادئ الأخلاقية في صلب تصميم الخوارزميات والأنظمة الذكية لم يعد ترفًا أكاديميًا أو تمرينًا فلسفيًا، بل أصبح مطلبًا ملحًا أمام التطور المتسارع لقدرات الذكاء الاصطناعي ودخوله في تفاصيل الحياة اليومية، من الرعاية الصحية إلى القضاء، ومن الاقتصاد إلى الأمن. لكن هذا المسعى يصطدم بجملة من العوائق البنيوية، في مقدمتها التباين الثقافي والاختلاف الجذري بين النظم القيمية المتنوعة. فهل يمكن اختزال الأخلاق في مجموعة تعليمات قابلة للبرمجة؟ وهل بوسع الخوارزميات أن تفهم المعنى الأخلاقي للسياقات المختلفة، أم أنها ستظل رهينة الحسابات والمنطق الصوري، عاجزة عن تذوق طعم الخطأ أو الصواب بما يحمله من دلالات إنسانية معقدة؟
يبدو هذا التساؤل أكثر حدة عندما نضع منطق الأتمتة والذكاء الاصطناعي في مواجهة المفهوم الفلسفي للحرية. ففي حين يُروَّج للتكنولوجيا على أنها أداة لتحرير الإنسان من عناء التكرار والمهام الشاقة، تتنامى المخاوف من أن هذا “التحرر” المزعوم يخفي في طياته وجهًا آخر للاستعباد، إذ يتحول الإنسان تدريجيًا إلى مجرد ترس في آلة ضخمة، يُعاد تشكيل سلوكه وتوجيه قراراته وفق منطق خوارزمي صارم. وهكذا، لا يعود الفرد حُرًا بل يصبح محكومًا بأنماط سلوك مسبقة، توجّهها خوارزميات “ذكية” لكنها بلا ضمير، وبلا شعور، وبلا سياق تاريخي أو إنساني يُذكر.
التكنولوجيا، إذن، ليست حيادية كما يُشاع في الخطاب التقني، بل تحمل في جوهرها رؤى مضمرة للعالم، ونزعات أيديولوجية تتوارى خلف واجهات المستخدم وشيفرات البرمجة. إنها مشروع للهيمنة الناعمة، لا من خلال العنف المباشر، بل من خلال فرض أنماط تفكير جديدة، وتشويه البنى القيمية الراسخة، وإعادة تعريف الإنسان ذاته. ففي صميم هذا المشروع، يُعاد تشكيل العلاقة بين الإنسان والعالم، بحيث يُنظر إلى الوجود الإنساني لا كغاية في ذاته، بل كوسيط في شبكة من العمليات والمعلومات. وهنا تكمن خطورة الذكاء الاصطناعي: ليس فقط في قدرته على اتخاذ القرار، بل في قدرته على إعادة صياغة معنى القرار الأخلاقي ذاته.
السؤال الجوهري لم يعد: “هل تستطيع الآلة أن تفكر؟” بل أصبح: “من يفكر من خلال الآلة؟ وبأي منظومة قيمية؟ ولمصلحة من؟” هذه الأسئلة تعكس عمق الأزمة الأخلاقية الكامنة في قلب الثورة الرقمية، وتدعونا إلى إعادة التفكير جذريًا في علاقتنا بالتكنولوجيا، لا بوصفها أدوات محايدة، بل بوصفها امتدادًا للسلطة، وتجسيدًا لقيم معينة، ومحركًا خفيًا لإعادة تشكيل العالم. في هذا السياق، تصبح الحوسبة الأخلاقية مشروعًا فلسفيًا لا تقنيًا فحسب، يتطلب حوارًا حضاريًا عابرًا للثقافات، ويستوجب حضورًا نقديًا متيقظًا، حتى لا نفقد إنسانيتنا باسم التقدم، ولا نصحو ذات يوم على عالم تسيره خوارزميات لا تفهم شيئًا عن الإنسان سوى أنماط سلوكه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.