د.رامي جلال يكتب | إدارة وزارة الثقافة أم ملف الثقافة؟ !

0

إدارة ملف الثقافة وليس وزارة الثقافة!
د. رامي جلال

مسؤولو الثقافة لا يدعمون الثقافة بل يديرون الوزارة! فنحن أمام إدارة مكتبية، وليست إدارة فكر. وأمام تسيير أعمال للحفاظ على الكراسى لا على الوعى. هى حراسة إدارية لبقايا وزارة فقدت روحها. تُعقد بروتوكولات، وتُوقع مذكرات، وتُنظم فعاليات، وتُلتقط صور، ثم نخرج مقتنعين بأن شيئًا ثقافيًا ما قد حدث، بينما هو نشاط إدارى ليس أكثر!

تعمل وزارة الثقافة على إدارة وجودها، لا إدارة دورها. تتحدث باسم الثقافة لكنها لا تملك مفاتيحها. تشغل مبانيها وكوادرها، لكنها لا تقود الفضاء الثقافى المصرى ولا تعيد تعريفه فى سياق جديد، رغم تغير الواقع والتاريخ والجغرافيا.

الحالة المؤسسية لوزارة الثقافة، لا أتمناها لألد أعدائى: ديوان عام مترهل تحكمه الدولة العميقة. ومجلس أعلى للثقافة تحول إلى مكلمة. وهيئة عامة للكتاب أصبحت مطبعة حكومية. وقصور ثقافة فاقدة للدور والمعنى. وأكاديمية فنون لا أحد يحل مشاكلها لأن النخبة مستفيدة منها. وصندوق تنمية ثقافية فقد دوره وتأثيره بعد إيقاف تمويله الأساسى. وجهاز قومى للتنسيق الحضارى لا ينسق أى شىء لدعم الهوية أو رفع الذائقة.

ومركز قومى للترجمة يترجم سنويًا عدد كتب أقل مما تترجمها دار نشر متوسطة القيمة. ومكتبات خالية من الزوار. وأوبرا ومسارح ومراكز تقدم خدماتها لبضعة آلاف من البشر فى دولة تعدادها 110 مليون نفس. وإنتاج ثقافى متقادم لا يتم التسويق له، وهيكل وظيفى عام قائم على تسكين أكبر قدر ممكن من الناس فى أى مكان دون أى تدريب أو تأهيل، وكأن ما يُصرف لهم هى إعانات بطالة لدواع اجتماعية وليست مرتبات لأسباب مهنية.

يتكلل كل ذلك بتقنيات إدارية تنتمى إلى حقبة ما قبل ثورة يناير، مثل: لجان اختيار القيادات التى يتم ترتيب تشكيلها بحيث تختار من نريد وليس من يستحق، فضلًا عن ترضية كل من يسيء للوزير عبر وضعه فى لجان هنا وهناك، ليُطعم الفم فتستحى العين. كل هذا من المؤكد أنه لا يفيد الثقافة بشيء، وهو حتى لا يفيد الوزارة ذاتها. كلها مجهودات تقع ضمن نطاق «تسيير الأعمال» و«تستيف الأوراق».

ولهذا لو ألغيت وزارة الثقافة حالًا، فلن يحدث أى شىء ولن يشعر أى أحد بأى تغيير، سنستمع فقط إلى فاصل من المرثيات سواء من المثقفين الحقيقيين أو المنتفعين الموجودين. كل ما سبق، رغم أنه ذو شجون، لكن يؤخذ منه ويرد، ويمكن تحقيق نجاحات فيه، لكن ستبقى المشكلة هى أن كل هذا سيدير عجلة الوزارة، ولن يخدم ملف الثقافة نفسه كثيرًا.

الملف الثقافى لا يتم التعامل معه بآليات التوظيف والترقى، فإدارته ليست تحسينًا تقنيًا لأسلوب العمل، بل هى تحول فى فلسفة الدولة من إدارة قطاع إلى إدارة معنى. وهى أن تُدرك الدولة أن الثقافة ليست وزارة بين الوزارات، بل هى المظلة التى تُنسق بينها جميعًا، لأنها تملك وحدها سلطة بناء الوعى الجمعى وصيانة الهوية الوطنية.

الحوكمة الثقافية هى أن تمتلك الدولة منظومة تربط بين الفعل الثقافى والتشريع، وبين التمويل والحرية، وبين المنتج والمواطن. وهى أن تصبح الثقافة لغة تنسق بها الدولة بين مؤسساتها، لا قطاعًا هامشيًا. وهى أيضًا نظام لمساءلة السلطة نفسها عن أثرها على وعى الناس، مثلما تُساءل عن الاقتصاد أو الأمن. فالثقافة ليست قطاعًا خدميًا، بل أداة حكم فى منظومة واحدة تدير الوعى الوطنى لا الملفات الورقية.

الفرق بين إدارة وزارة الثقافة وإدارة ملف الثقافة هو الفرق بين من يستف أوراقًا ومن يرتب ذاكرة، الأولى تحسب النجاح بعدد الفعاليات، والثانية تقيس أثرها بعدد العقول التى تغيرت.

لا تحتاج مصر اليوم إلى من يُسير الأعمال، بل عقلًا سياسيًا يدير الوعى الجمعى ويفكر فى الثقافة كقوة ناعمة وأداة للتنمية وحماية الهوية، لا كخطة فعاليات ومهرجانات.

الثقافة ليست رفاهية بل هى الأمن القومى فى صورته الناعمة، وإذا غابت الثقافة عن القرار، سيبقى كل إصلاح مؤقتًا وكل نهضة منقوصة. وإن لم تنتقل الدولة، ممثلة فى وزارة الثقافة، من إدارة وزارة إلى إدارة ملف، فستظل الثقافة آخر من يعلم، وأول من يُهمش، فى وطن فى خطر ويحتاجها أكثر من أى وقت مضى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.