د. رامي جلال يكتب | متاحف مصر العظمى ثقافيًا

0

كثيرًا ما كنتُ، في أسفاري، أقف أمام قاعات الحضارة المصرية في المتاحف العالمية، فأشعر بمزيج من الفخر والدهشة، يتبعه سؤال لا يفارقني: لماذا أدفع مالًا لأرى آثار أجدادي التي خرجت من بلادي؟
لم يكن ذلك السؤال عابرًا بل ظلّ يتكرر في ذهني حتى تحوّل إلى فكرة مقترح برلماني، ناقشته بالفعل داخل مجلس الشيوخ المصري منذ حوالي العامين، بهدف إتاحة دخول المصريين بالخارج إلى معارض الآثار الفرعونية في المتاحف العالمية مجانًا. ليس من باب الترفيه أو المزايا، بل من منطلق الانتماء والعدالة الرمزية.
تُقدّر القطع الأثرية المصرية الموجودة خارج البلاد بنحو مليون قطعة، موزعة على مئات المتاحف حول العالم، من بينها متاحف تضم عشرات الآلاف من الكنوز الفرعونية.
وهذه القطع تنقسم إلى ثلاثة أنواع: الأول، ما خرج بطريقة قانونية قبل عام 1983، حين كان مسموحًا للبعثات الأجنبية بالاحتفاظ بجزء من مكتشفاتها قبل صدور قانون حماية الآثار، وبالتالي لا يمكن استرداده قانونيًا. الثاني، ما سُرق من لصوص الآثار وهُرّب دون تسجيل، وهو أيضًا شبه مستحيل الاستعادة لغياب المستندات الرسمية. أما الثالث، فهو ما سُجّل بالفعل في سجلات المجلس الأعلى للآثار ثم سُرق بعد ذلك، وهذا هو النوع الوحيد القابل للاسترداد، رغم محدوديته.
حين تتعثر محاولات استعادة ما سُرق، لا بد من البحث عن طريقة جديدة للاستفادة. من هنا جاءت الفكرة: إذا كانت إعادة القطع صعبة، فلماذا لا نعيد القيمة والمعنى؟ أن يدخل المصري متحفًا في الخارج فيرى آثار أجداده دون أن يُعامَل كغريب عنها، هو فعل رمزي لكنه عميق، فهو يُعيد وصل ما انقطع بين المصري وحضارته، أينما كان.
يقوم هذا الاقتراح على مبدأ بسيط وهو أن الانتماء لا يُدفع ثمنه. فكما تُمنح بعض الدول رعاياها امتيازات ثقافية في الخارج، من حق المصري أيضًا أن يرى حضارته مجانًا، باعتباره جزءًا منها، لا مجرد زائر لها.
تمت مناقشة المقترح في لجنة الثقافة والإعلام والسياحة والآثار بمجلس الشيوخ، بحضور وزارات الخارجية والسياحة، ولاقى تأييدًا واسعًا، واتُفق على خطوات عملية للتواصل مع المتاحف الكبرى عبر السفارات المصرية.
إن التوصل إلى اتفاق واحد مع متحف عالمي، مثل متحف الدولة للفن المصري في ميونخ الذي يضم ثمانية آلاف قطعة، أو متحف تورينو الذي يضم ثلاثين ألفًا، سيكون سابقة عالمية يمكن تعميمها لاحقًا.
القضية ليست في استعادة الحجر، بل في استعادة المعنى.
أن تبقى الحضارة المصرية حيّة في وجدان كل مصري، وأن تتحول زيارة المتاحف إلى فعل وطني يذكّره بجذوره، لا مجرد تذكرة تُقطع على الشباك. ليس الهدف رمزيًا أو سياحيًا، بل خطوة في طريق إعادة تموضع الهوية المصرية عالميًا، عبر الدبلوماسية الثقافية والقوة الناعمة، لتظل رسالة مصر كما كانت دائمًا: أن الحضارة، أينما ذهبت، تظل في النهاية مصرية الروح والجوهر. حدثت بالفعل استجابة دولية واسعة لمقترحي بمجلس الشيوخ بشأن إتاحة دخول مجاني للمصريين إلى المتاحف العالمية التي تضم آثارًا فرعونية. رحبت. واشنطن، روما، برلين، وباريس بالتنسيق والمشاركة في الفعاليات الثقافية المصرية، وأرسلوا ردودًا رسمية عبر وزارة الخارجية المصرية.
إنها خطوة أولى في التفاوض، وعلامة على طريق تعزيز الهوية المصرية والتواصل الحضاري، حيث يلتقي التاريخ بالسياسة، والماضي بالحاضر، في حوار عالمي عنوانه الدائم: مصر العظمى ثقافيًا لا تغيب عن الذاكرة أبدًا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.