د. رامي جلال يكتب | هل نحتاج إلى وزارة ثقافة؟

0

هل تحتاج مصر إلى وزارة للثقافة؟ وهل يمكن لوزارة واحدة أن تدير المشهد الثقافى فى بلد بحجم مصر، أم أن الثقافة ينبغى أن تتخلل كل مؤسسات الدولة لتصير نمطًا عامًّا فى التفكير والتخطيط والتنفيذ؟ هذه ليست تأملات فلسفية أو أحاجى لغوية، بل هى أسئلة سياسية وتنموية فى غاية الجدية، ومن شأن الإجابة عليها أن تُعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين السلطة والمعرفة، وبين الإدارة والإبداع.
وزارة الثقافة، ككيان مؤسسى استراتيجى، هى ضرورة وطنية، مثل وزارات: التعليم، والصحة، والاقتصاد. وهى تمثل خط الدفاع الأول عن الهوية القومية والذاكرة الجمعية، فضلًا عن مواجهة الغزو الثقافى العدائى، والتطرف، والاستهلاك السطحى للثقافة الرقمية.
مصر ليست مجرد دولة ذات تراث ثقافى، بل هى دولة عظمى ثقافيًا، وصاحبة رصيد حضارى نادر، وبنية رمزية فريدة. لذلك، ومع الاعتراف بأهمية وزارة الثقافة، لابد من الإيقان بأن الثقافة فى مصر أكبر من أن تُختزل فى وزارة واحدة، وأهم من أن تُترك دون تنظيم وقيادة ذكية. وهنا يأتى دور وزارة الثقافة كمنظّم لا كمحتكر، وكقائد تنسيقى لا كمهيمن بيروقراطى.
لكى تنهض الثقافة عمومًا، لا يجب الاكتفاء بوجود وزارة لها، رغم أهمية ذلك، لكن يجب أن نُدخلها فى كل وزارة. ففى وزارة التعليم من المهم دمج الفنون والآداب والفلسفة فى المناهج، لبناء عقل نقدى لا مجرد ذاكرة صماء. وفى وزارة التجارة والصناعة يجب تطوير الصناعات الثقافية والإبداعية، وتصدير الفنون كسلع رمزية ذات قيمة اقتصادية. وفى وزارة البيئة لابد من تحويل مفاهيم الاستدامة إلى سلوك ثقافى يومى. وفى وزارة المالية من الضرورى إدخال الثقافة فى المعادلة الضريبية، ودعم المنتج الثقافى عبر حوافز ذكية. وفى وزارة التخطيط من المحتم أن تكون الثقافة جزءًا أساسيًا من خطة التنمية. وبهذا المنظور، تصبح الثقافة، ضمن مشروع ثقافى حقيقى، جزءًا أصيلًا من نسيج الدولة، لا مجرد قطاع إدارى على الهامش.
لا يجب أن تدير وزارة الثقافة كل الفنون، ولا أن تُنتج كل الفعاليات، ولا أن تحتكر الفضاء الثقافى، بل عليها فقط أن تنظم المشهد العام، وفقًا لعدد من الوظائف الاستراتيجية أبرزها فى تقديرى خمسة هى: أولًا: صياغة السياسة الثقافية الوطنية عبر رؤية غير مركزية أو سلطوية أو استهلاكية. وثانيًا: رعاية الفن المستقل وتمويله وضمان استقلاليته، لا السيطرة عليه. مع احتضان المجتمع المدنى الثقافى، لا مضايقته أو تهميشه. ثالثًا: من المهم تنظيم العلاقة الثقافية بين القطاعين العام والخاص، وتشجيع الشراكات التى تحترم المضمون وتخدم المجتمع. رابعًا: إدارة التنوع الثقافى فى مصر، وتفعيل الثقافة المحلية فى المحافظات. خامسًا: تحويل الهيئات الثقافية إلى مؤسسات إنتاج معرفى حقيقى، وليس فقط جهات لإصدار النشرات وتنظيم المهرجانات.
كل ما سبق من أدوار لا يمكن لأى جهة أخرى القيام بها غير وزارة الثقافة التى تشبه «عقل الدولة الثقافى» أكثر منها جهة تنفيذ فعلى. فمشكلة وزارة الثقافة أنها حاولت أن تكون اللاعب الوحيد، بينما الصحيح أن تكون المنظم العادل. فالثقافة لا تحتمل السيطرة، بل تحتاج إلى بيئة حرة يُطلق فيها المبدعون خيالهم دون قوالب جامدة. والوزير الناجح ليس من يضع برنامجًا فنيًا، بل من يضع سياسة عامة تُخرج ألف برنامج، فمن يُبدع ليس من يُنتج الثقافة، بل من يضمن إنتاجها الحر.
لا تحتاج مصر إلى مجرد وزارة ثقافة بل إلى دولة مثقفة. نحتاج موظفًا عموميًا يحترم الجمال، ولا يراه ترفًا. نحتاج جهازًا إداريًا يؤمن بأن المسرح أداة للإصلاح، وأن أغنية قد تعيد تشكيل الوعى الجمعى، وأن معرضًا فنيًا فى الصعيد قد يفتح أفقًا جديدًا لطفل لم يقرأ بعد. نحتاج إلى وعى مؤسسى يُدرك أن أهمية قصور الثقافة لا تُقاس بعدد أمتارها، بل بأثرها فى الوجدان.
آن الأوان لإعادة تعريف دور الدولة فى المجال الثقافى، لا بوصفها الراعى الأوحد، بل كمُنظم ذكى، وضامن للحرية، وصاحب رؤية.. على الدولة أن تُدرك أن الثقافة ليست عبئًا على الميزانية، بل استثمار فى البقاء، وضمان للهوية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.