د. سامي الأخرس يكتب | العراق دروس وعبر
تسعة عشر عامًا مضت بعدما تحطمت مؤسسات الدولة العراقية العميقة، وعلى وجه التحديد مؤسسة الجيش العراقي القوية وهي الهدف الأكبر الذي وضعته الولايات المتحدة وحفنة العملاء التي جاءت بهم على ظهر الدبابة الأمريكية، وهم يدركوا أنّ الدولة العراقية لن تقوم لها قيامة بعد ذلك، فالمؤسسة العميقة لم تعد قائمة، والمؤسسات الجديدة بنيت وفق السياسة الإستعمارية الأمريكية، مؤسسات هشة لا تقوم إلَّا على قوانين التكسب والفساد، والهشاشة بحيث لا تقوى على الصمود في وجه أيّ أزمة فكيف لها أنّ تستطيع البناء؟ البناء بمفهومة الأوسع على وجه التحديد بناء الإنسان ورفاهيته وديمقراطيته، وإنسانيته المثلى التي من خلالها يستطيع أنّ يبني ويقاوم.
استوقفني هنا كيسنجر عندما قال في جولاته لحل المسألة الفلسطينية:” إنّ المسألة الفلسطينية لن تحل إلَّا أّن يجوع الفلسطينيون، ويرتضوا بما يعرض عليهم، أما القدس فتأجل أوضاعها إلى الحل النهائي”، هنا نتعرف كيف يفكر العالم المستعمر بنا ولنا، وكيف يفكروا بمصيرنا وأقدارنا ويخططوا لنا، وما هو المآل النهائي لمصائرنا العربية، ونحن نساق خلف شعاراتهم كالأغنام تسترق أنظارها خضرة وندرة العشب، دون أنّ نعرف مصدره أو محتوياته أو سمومه التي يحملها، وهذا ما فعله الإستعمار الحديث المتسلح بشعارات التقدمية، والتحرر، والمساواة، والديمقراطية التي تسترق أنظارنا نحن الأغنام التي تساق بلا حول أو قوة لها.
عندما اندلعت الثورة الإيرانية في العام 1979 كان الشغل الشاغل للاستخبارات الأمريكية، ومؤسسة الحكم الأمريكي هو كيفية الحفاظ على الجيش الإيراني ونواته الخشنة التي كانت تعتبر أحد أهم مواجهاته ضد المد الشيوعي السوفيتي أنداك، وأجروا قنوات اتصالات في باريس مع آية الله الخميني لمنح وزير الدفاع الإيراني ورئيس الحكومة أنداك فرصة للتعاون للحفاظ على تنظيم الجيش وقوته، أيّ لم يهمهم تغيير النّظام بقدر ما همهم الحفاظ على قوة الجيش الإيراني، بما أنهم يدركوا أهمية هذه المؤسسة التي تحافظ على أركان الدولة العميقة وقدرتها على النهوض والبناء من جديد، عكس ما فكرت به في العراق والذي كان أول مهماتها فيه تحطيم الجيش العراقي.
وبنظرة ثاقبة لدول ما يسمى الربيع العربي نرى أنّ الدول التي تمّ عتق رقابها من فوضى ما كان مخطط له هما مصر وتونس، وهاتان الدولتان عتقت رقابهما لأنّ مؤسسة الجيش تحركت قبل أنّ يطالها التفكك، والشرذمة وتتعرض للتلاشي ومن ثمّ تغرق مؤسسات الدولة العميقة في الفوضى، والمجهول عكس ما حدث في ليبيا وسوريا واليمن اللواتي استهدفت بهما المؤسسة العسكرية، وكانت هدف أساسي ورئيسي للمخطط الأمريكي والاستعماري الغربي،
لذلك تفككت الدولة وتفككت المؤسسة العميقة للدولة، وسادت الفوضى والشرذمة.
فاليوم ما يحدث في العراق هو أنها تحولت لمستنقع متشرذم لا يحكمه منظومة المفاهيم والقوانين الأساسية المركزية التي تنظم البناء وعملية البناء، بل ما يحدث هو مفاهيم طائفية فئوية تسيرها منظومة مصالح إقليمية ودولية من جهة، في ظلّ مؤسسات هشة تقوم على التوزيع الطائفي كما في لبنان، يطحن فيها المواطن وأدميته من جهة، والدولة العميقة ومؤسساتها من جهة أخرى.
ما يحدث في العراق ليس مستحدثًا أو بعيدًا عن الفهم الطبيعي لحركة التطور الطبيعية لمنظومة ونظام هش لا تحكمه أيّ قوانين، أساسه إهانة المواطن العراقي وإذلاله تحت مطحنة ضنك الحياة ومتطلباتها، وتحول العراق من دولة نفطية متقدمة، واقتصاد يقوم على البناء المنظم المتعافي صناعيًا. وزراعيًا…إلخ غلى نظام متقاسم بين طوائف وأثنيات كل منها يساق بما تمليه عليه مصالح الدول الإقليمية والدولية، التي أصبح لها أنصار وجيش من الهوجاء يأتمر بأمرها وينفذ مآلاتها وسياساتها على حساب الدولة والمواطن.
لقد استطاع المخطط الإستعماري أنّ يدرس نفسية المواطن العربي وفق دراسات أنثربولوجية معقدة، ويفكك طبيعة الإنسان العربي وتفكيره، ومن ثمّ بناء ما يتوافق وهذه الطبيعة، وهذا التفكير، ويقدم لنا السم بالعسل، حتى أضحينا نرى العراق الدولة الفتية، دولة مفككة وقودها الإنسان.