وَعْكَة الأمس.. ويَقِينُ اليوم هل تذكرون تلك الوعكة الثقيلة؟ تلك السنوات العجاف التي تلت نكسة يونيو، حيث
كان الجرح مفتوحاً وكان الشك يتسلل إلى كل بيت. لم تكن المسألة مجرد احتلال لسيناء، بل كانت أزمة كِبْرِياء
قومي. كان صوت الغطرسة الإسرائيلية يعلو، يصدح بالوهم بأنهم “الجيش الذي لا يُقهر”، وأن جدار بارليف هو
نهاية خريطة الأحلام العربية. هذا الجدار، لم يكن مجرد ساتر ترابي ضخم، بل كان رمزاً للرضوخ، رمزاً لـ
“المستحيل” الذي فُرض علينا. لكن، في صمت الاستعداد، ووسط ضجيج الإحباط، كانت الروح المصرية تُعيد
ترتيب أوراقها. في السادس من أكتوبر، لم يكن الأمر مجرد حرب. كانت عملية استرداد للضمير. الجندي الذي عبر
القناة، والذي كان بالأمس فلاحاً بسيطاً أو عاملاً كادحاً، لم يكن يحمل بندقية فحسب؛ بل كان يحمل شرف أمة.
كان يحمل الرد العملي الوحيد على العربدة والغرور الذي وصل مداه.
والسؤال الذي يجب أن نسأله لأنفسنا في هذه المناسبة المجيدة هو ما الذي جعل نصر أكتوبر مختلفاً؟ والاجابة
هي “السهل الممتنع”، فالانتصار يا سادة لم يأتِ بصواريخ عابرة للقارات، بل جاء بـخراطيم مياه تافهة في نظر
المخططين العسكريين، لكنها كانت تحمل قوة إرادة جبارة. النصر جاء بتكتيكات بسيطة لم يكن العدو يتوقعها لأنه
كان غارقاً في غطرسته. كان يعتقد أن الحرب تُدار بالتحصينات الحديدية، ونسي أنها تُدار بالروح.
لقد علمنا أكتوبر درساً بسيطاً ولكنه عميق، وهو أن الحواجز المصنوعة من الصلب والوهم تنهار أمام العزيمة
المصنوعة من اليقين والدم. لقد أرسل العبور رسالة باللغة الوحيدة التي يفهمها المغرورون؛ الأرض لا تضيع،
والكرامة لا تُساوم، وقوة الإرادة تغلب قوة الآلة.
بعد مرور كل هذه السنوات، وبعدما عدنا نرى العربدة الإسرائيلية تتجدد بصور مختلفة، تتجدد في قتل الأبرياء،
وفي حصار الضعفاء، وفي خرق كل قواعد الإنسانية.. نسأل: ماذا تعلمنا من أكتوبر؟ فإن درس أكتوبر ليس مجرد
ذكرى عسكرية نرفع فيها الأعلام. بل إنه منهج حياة، ومنهج في التعامل مع الغطرسة. يجب أن نتذكر دائماً أن
القوة التي لا تُقهر يمكن قهرها. فالعربدة اليوم تبدو ضخمة، لكن جدار بارليف بدا يوماً أضخم وأكثر حصانة.
انتصرنا عندما توحدت الأمة خلف هدف واحد. اليوم، يجب أن تتوحد إرادتنا (كعرب) في دعم الحق والعدل،
وعدم ترك الأبرياء في خانة النسيان. القادة في أكتوبر عملوا في صمت، بعيداً عن ضجيج الشعارات. علينا اليوم
أن نتبنى العمل الفعال، سواء كان سياسياً، اقتصادياً، أو إنسانياً، للرد على هذه العربدة.
إن ما يحدث اليوم في فلسطين، وما تعانيه شعوب المنطقة من ضغوط، يثبت أن مفتاح الكرامة لا يزال في اليد.
وكما هُدم جدار بارليف، يمكن هدم جدار الظلم والغطرسة الحالي. النصر لا يُعطى، بل يُنتزع. فلا مستحيل على
خريطة العزيمة في النهاية، يبقى صوت أكتوبر هو الصوت الذي يجب أن يعلو فوق كل شيء. هو صوت العزيمة
الذي قال: “لا” مدوية في وجه المستحيل. لننظر إلى خريطة منطقتنا، ونستلهم روح الجندي الذي عبر القناة.
العبور ليس حدثاً تاريخياً قد مات؛ العبور هو حالة ذهنية دائمة. هو اليقين بأن الحق يجب أن ينتصر، وبأن العبث
والغطرسة مهما طالا، نهايتهما محتومة أمام الإرادة الحرة.
فلنتذكر دائماً: لا مستحيل على أرض الكرامة، وهل كان هناك جدار أعظم من الوهم الذي سقط في ذلك اليوم؟