د. شيرين الملواني تكتب | عن تألق القاهرة الخديوية

0
هل زرت عزيزي القارئ يومًا معالم باريس الأثرية والسياحية؟ هل تجولت بأريحية فيها دون تكدس مروري؟ هل تبينت لك ملامح المباني والتحف المعمارية والتي يعود تاريخها لقرون ماضية وتحتفظ بنقوشها ووحدة هندستها ليومنا هذا؟
دعني أذكر لك أن باريس مدينة صغيرة مقارنة ببقية عواصم العالم ولا أخفي عليك كونها مزدحمة ومأهولة بالسكان؛ ولكن للمناطق الأثرية قدسية فيها، ولراحة السائح أولوية تبجلها كل حكوماتها المتعاقبة؛ لمردودها الكبير ماديًا وثقافيًا على فرنسا. إذا ما تجولت ستجد أن المناطق السياحية الأثرية تتجمع حول بعضها في تخطيط رائع؛ يزيد السائح متعة وإبهار؛ فمتحف اللوفر ( Musée Louvre) بجوار كنيسة سانت شابيل (Église Sainte Chapelle) والكونسيرچييريه (Conciergerie) وبرج سان جاك  (Tour Saint Jacques) وكاتدرائية نوتردام (La Cathédrale Notre Dame de Paris)؛  ولا يختلف الأمر عناية وجمال وتلاصق عنه بين برج إيفل( Tour Eiffel) وحدائق تروكاديرو – Jardin du Trocadéro- و حدائق شان دي مارس -Champs de Mars – ومجمع ليز إنفاليد -Les Invalides- ومتحف جاك شيراك -musée jaques Chirac -؛عزلت فرنسا تلك المنطقة عن الزحام واحتفظت بكل معلم من المعالم وكأنه قد شُيِّد في أيامنا هذه؛ بَجْلت التاريخ والأثر والسائح وحصدت المردود.
ما سأذكره لاحقًا ليس بتحيز أو مبالغة؛ إن أجزمت أن القاهرة الخديوية بآثارها ومعمارها وبناياتها وموقعها وعبقها لا يقل أهمية أو جمال عن باريس بآثارها؛ بل يتفوق عليها في البصمة التاريخية وهندسة الأماكن؛ منطقة القاهرة الخديوية؛ تلك المنطقة المُهملة علي مدار سنوات طوال ماضية، ويعترينا جميعًا الحزن علي كَم العشوائية التي أصابتها؛ بدءًا من تشويه معالمها بفعل سكانها أو أصحاب المحلات التجارية فيها؛ بتحويل أغلب الأبنية لمخازن في شبهة  تخريب للمبني الأثري؛ دون توخي لإجراءات السلامة والأمن ، ثم لإهمال الصيانة، وإهمال الترميم وكثرة الإعلانات التجارية مع عشوائية توزيعها؛ مما كان كفيلًا بتهدم كلي لبعض أوجه الأبنية وعطب جزئي في الواجهات؛ والمحصلة زحف  الطمس الكامل علي المعالم .
أما أكبر المشاكل وأصعبها فكانت  مشكلة المرور والتكدس الذي يدوم لساعات؛ مما يُعرقل برنامج السائح المصري والأجنبي؛ لكون المنطقة منطقة عابرة؛ حيث حركة الانتقال للكتل السكانية ووسائل المواصلات بين أحياء محافظة القاهرة عبرها؛ فهي بؤرة التلاقي؛ بوجوب المرور من خلال وسط البلد؛ هذا في ظل أرصفة متآكلة وأماكن انتظار شبة معدومة لسيطرة الباعة الجائلين وعشوائية المعروض من المحلات في حرم الشارع و غياب كامل للمساحات الخضراء وأماكن التنزة، كل هذا لم يتم الانتباه إليه علي مدار عقود حتي كادت أن تذهب تلك المنطقة بمعالمها أدراج الرياح.
جاءت مصر الجديدة بخطة واستراتيجية إحياء القاهرة الخديوية أو باريس الشرق، كما أُطلق عليها، بمشروع لاستعادتها واحتواءها؛ هدفه إعادة شكلها الأصلي؛ احتراما مننا لقيمة تاريخنا وثقافتنا؛ فوجدنا لأول مرة إعادة تنظيم إعلانات الدعاية في المنطقة وتوحيد شكلها مع إعادة هندسة التعديات؛ بحيث يصبح المبني متجانسًا مع التركيز علي عنصر الإضاءة والذي يكفل إحياء المباني بشكلها الذي ولدت به، كما شهدنا نقل كل الأنشطة واستعمالات العين الغير آمنة ولا مناسبة كنشاط داخل القاهرة الخديوية إلي خارج القاهرة في خطوة حاسمة وهادفة؛ مما سيكون مؤشرًا كبيرًا لرفع قيمة المكان المادية والتراثية وسيكفل روح المنافسة بين أصحاب الشركات التجارية للامتلاك فيه؛ لتفرده وعلو عائدة الاقتصادي.
أما مشكلة المرور فكان للقيادة رؤية من بدايات التخطيط للتطوير على كافة الأصعدة؛ بإنشاء محاور العبور داخل وسط القاهرة وإنشاء المحاور والكباري التي تختصر المسافات خارج محيط القاهرة الخديوية؛ فتزيد متعة وأريحية تجول السائح ولا يُجبر المواطن على المكوث في محيطها من أجل العبور لمنطقة هدفه.
لا أغفل سعادتي بعودة التشجير وزراعة المسطحات الخضراء والذي افتقدنا التخطيط له في السنوات الماضية، مع إعادة إبراز جمال حديقة الأزبكية ببرجولتها الشهيرة واكتشاف جماليات منطقة الأزهر والغوري والدرب الأحمر وباب الوزير والجمالية، والبدء في مشروع الترميم المستقل لمسجد أحمد بن طولون وبيت السادات وقصر الأمير طاز وقصر محمد علي باشا في شبرا وسور مجري العيون بالتوازي مع مشروع تأهيل مجمع الأديان.
خطوات ثابتة ناجزة وواعدة تخطوها مصر نحو الحفاظ علي تراثها وتاريخها ،نحو تخطيط بلا عشوائية ورقابة بلا تسيب؛  خطوات جدية نحو استعادة الزخم السياحي بتوفير المناخ للسائح القادم؛ مناخ من السهولة والمتعة لا يقل عن ما يلاقيه في دول أوروبا؛ وكل ما نطمح إليه لتمام عُرس تلك المنطقة التي انتُشِلت من الفقدان هو تكثيف المتابعة من قبل المحافظة بعد التطوير؛ لكون هذا المشروع مشروع اجتماعي قبل أن يكون استثماري؛ فلا استدامه للعمران بدون متابعة إدارية بأدوات الصيانة والأمن والنظافة، وأخيرًا علينا أن نرحب بعودة (باريس الشرق) والتي تفوقت علي (باريس الغرب) ونرفع القبعة لأصحاب التخطيط والتنفيذ والمتابعة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.