يشهد نظام التأمين الصحي الشامل في مصر تطوراً نوعياً يهدف إلى الانتقال من ثقافة تقديم الخدمات بكميات كبيرة إلى
التركيز على القيمة الحقيقية لهذه الخدمات وجودتها. لم يعد المقياس الحقيقي لنجاح النظام الصحي هو عدد الكشوفات الطبية
أو العمليات الجراحية التي يتم إجراؤها، بل أصبحت النتائج الصحية الفعلية للمواطنين هي المؤشر الأهم. هذا التحول
الاستراتيجي يأتي في إطار رؤية مصر 2030 لبناء نظام صحي مستدام يحقق العدالة ويضمن جودة الحياة لجميع
المواطنين.
في ظل التحديات الكبيرة التي يواجهها القطاع الصحي، من تزايد الطلب على الخدمات إلى محدودية الموارد المتاحة، أصبح
تبني نموذج الرعاية الصحية القائمة على القيمة ضرورة ملحة. هذا النموذج الجديد يركز على تحقيق نتائج صحية ملموسة
مثل تحسن الحالة المرضية، وانخفاض المضاعفات، وتحسين جودة الحياة، مع ضمان الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة. إنه
تحول جذري من ثقافة “الدفع مقابل الخدمة” إلى “الدفع مقابل النتيجة”، مما يحفز مقدمي الخدمات على تحسين الجودة بدلاً
من زيادة الكم.
لتحقيق هذا التحول، اتخذت مصر خطوات عملية مهمة تشمل وضع بروتوكولات علاجية موحدة للحالات المرضية الشائعة
بناءً على أحدث الأدلة العلمية. هذه البروتوكولات لا تضمن فقط جودة الرعاية المقدمة، بل تعمل أيضاً على تحقيق العدالة
في توزيع الخدمات الصحية بين مختلف المناطق. كما تم اعتماد أنظمة تقييم جديدة تقيس أداء المنشآت الصحية بناءً على
مؤشرات النتائج الصحية للمرضى بدلاً من الاعتماد فقط على التقارير الروتينية.
التكنولوجيا تلعب دوراً محورياً في دعم هذا التحول، حيث تسهم السجلات الصحية الإلكترونية ومنصات تحليل البيانات في
تتبع النتائج الصحية على المدى الطويل. هذه الأدوات تمكن المسؤولين من اتخاذ قرارات مستنيرة بناءً على معلومات دقيقة،
كما تساعد في تحديد أوجه القصور ومواطن الهدر في النظام الصحي. وقد أثبتت التجارب الأولية في بعض المحافظات
كيف يمكن لهذه الحلول التكنولوجية أن تحسن كفاءة الخدمات وتخفض التكاليف دون المساس بالجودة.
لكن هذا التحول لا يخلو من التحديات. فمقاومة التغيير من بعض مقدمي الخدمات الذين اعتادوا على النموذج التقليدي،
وصعوبة قياس النتائج الصحية بدقة، وضعف البنية التحتية التكنولوجية في بعض المناطق، كلها عقبات تحتاج إلى معالجة.
كما أن غياب الوعي الكافي لدى بعض المرضى بحقوقهم الصحية يحد من قدرتهم على المشاركة الفعالة في تقييم الخدمات
المقدمة لهم.
للتغلب على هذه التحديات، يجب تعزيز برامج تدريب الكوادر الطبية على مفاهيم الرعاية القائمة على القيمة، مع تطوير
أنظمة تقييم أداء شفافة تعتمد على مشاركة المرضى. كما أن الاستثمار في البنية التحتية التكنولوجية، خاصة في المناطق
النائية، سيسهم في تحقيق العدالة الجغرافية في تقديم الخدمات. ولا يمكن إغفال أهمية الحملات التوعوية التي تشرح
للمواطنين حقوقهم الصحية وتشجعهم على المشاركة في تحسين جودة الخدمات.
يعد التحول نحو الرعاية الصحية القائمة على القيمة خطوة حاسمة لضمان نجاح التأمين الصحي الشامل في مصر. فبدون
هذا التوجه، قد يصبح النظام الصحي مثقلاً بالتكاليف دون تحقيق تحسن حقيقي في النتائج الصحية للمواطنين. إن إعادة
هيكلة آليات العمل لتركز على النتائج بدلاً من الخدمات فقط، ستمكن مصر من بناء نظام صحي مستدام يحقق العدالة
ويضمن جودة حياة أفضل للجميع. هذا هو الطريق لتحقيق الوعد بجعل الصحة حقاً أساسياً لكل مواطن، وليس مجرد شعار
يرفع.