د.عادل جعفر يكتب | حوكمة النظام الصحي

0

يمثل بناء نظام صحي قائم على الحوكمة الرشيدة محورًا حيويًّا لتحقيق رؤية مصر2030 لقطاع صحي عصري ومستدام. في ظل التحديات المتنوعة – من تزايد الاحتياجات إلى محدودية الموارد – تظهر الحوكمة كإطارٍ استراتيجي يعزز الثقة ويرتقي بالخدمات، مما يجعل الصحة حقًّا أساسيًّا يحظى بالأولوية.

في السنوات الماضية، واجه النظام الصحي إشكاليات عميقة، تمثلت في صعوبة حصول المرضى على معلومات واضحة، وغياب آليات فعالة للمساءلة، وتعقيد الإجراءات التي أعاقت توزيع الخدمات الحيوية. هذه التحديات دفعت الدولة لتبنّي رؤية طموحة تجعل الحوكمة حجر الزاوية في الإصلاح ، حيث تجسّد قانون المسؤولية الطبية لسنة 2025 نقلةً تاريخيةً نحو بناء “عقد اجتماعي” جديد.

فقد جاء القانون ليرسّخ ثقافةً متوازنةً تجمع بين حقوق المرضى وضمانات الأطباء. من خلال آليات مثل “الموافقة المستنيرة” التي تمنح المريض حق فهم خطة العلاج بدقة، والتسوية الودية التي تحل النزاعات خلال 45 يومًا بدلاً من سنوات التقاضي ، وصندوق التأمين المركزي الذي يحمي الكوادر الطبية من الأعباء المالية المجحفة. أما الهيئة الرقابية المستقلة فتعمل كشريك فى التطوير، تراقب المنشآت بموضوعية، وتدعم تطبيق المعايير الدولية كأدوات تحسين لا عقوبات روتينية.

وفي إطار رؤية التأمين الصحي الشامل، تتحول الحوكمة إلى جسر نحو عدالة التغطية الصحية ، حيث تعمل الآليات الموحدة على ترشيد الإنفاق وتوجيه الموارد نحو الأولويات. وقد أسهمت الرقمنة في تعزيز هذه الجهود ، من خلال منصات الشكاوى الإلكترونية التي اختصرت زمن الاستجابة، وقواعد البيانات الموحدة التي حوّلت السجلات الطبية إلى أدوات ذكية تدعم اتخاذ القرار.

رغم هذه الإنجازات، تظل أمامنا فرص واعدة للتطوير. فربط المستشفيات النائية بالبنية الرقمية الوطنية، وتعزيز برامج تدريب الكوادر على أحدث البروتوكولات، يمثلان بوابة للارتقاء. هنا تبرز أهمية تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص لدعم البنية التحتية، وإطلاق حملات توعية واسعة تشرح للمواطن حقوقه وللطبيب التزاماته، لتصبح الشفافية لغة مشتركة.

إن تحويل هذه الرؤية إلى واقع ملموس يتطلب استمرار الحوار البناء بين الجهات التنظيمية والممارسين الصحيين والمجتمع. فتعميم النماذج الناجحة – كآليات التسوية الودية – في كل منشأة صحية ، وربط المستشفيات الريفية بالمنظومة الرقمية الوطنية، وتخصيص ميزانية كافية لتدريب الأطباء الشباب ، كلها خطوات ستحوّل ثقافة الجودة إلى ممارسة يومية.

الخاتمة تكمن في إدراك أن حوكمة النظام الصحي ليست هدفًا نهائيًا، بل رحلةً مستمرةً نحو الاستدامة. فنجاح إصلاحات اليوم يُقاس بانخفاض الشكاوى غير المبررة، وارتفاع مؤشرات رضا المرضى، وازدهار ثقافة التعلم بدل اللوم. مصر تملك اليوم فرصةً ذهبيةً لكتابة فصل جديد في تاريخها الصحي، حيث تُبنى الثقة جيلًا بعد جيل، ويصبح “الحق في الصحة” إرثًا دائمًا لا يُمس.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.