د.عبد المنعم سعيد يكتب | مصر في مواجهة القلق؟!
بحكم موقعها وتجربتها القديمة والحديثة والمعاصرة، ودولتها الوطنية، فإن مصر تتحمل مسئوليات كبيرة إزاء الإقليم الذي تعيش فيه من أجل مصالحها القومية أولا في تحقيق الاستقرار اللازم لعملية البناء الوطنية؛ وثانيا ابتغاء تفادي الفوضى والتهديد الإرهابي والاختراق الإقليمي من قوي إقليمية عدوانية والدولي من قوي صاعدة أو أخري تريد البقاء دوما على القمة، وجميعها ذات آثار سلبية على مستقبل المنطقة كلها. القلق من كل ذلك طبيعي وفيه بحث عن السبل الاستراتيجية التي تعطي مصر والمنطقة كلها فجوة زمنية كافية للبناء والتعمير. ومثل ذلك يحتاج الكثير من التفصيل.
الأوضاع القلقة داخل المنطقة بعضها يتجه في اتجاه التأزم وأكثر أمثلته بلاغة الأزمة السياسية في السودان التي جري فيها الانشقاق بين الجانبين المدني والعسكري بينما وقف الشعب السوداني حائرا بينهما. الأزمة هنا تنبع من فشل كبير داخل النخبة السياسية السودانية في وقت تواجه فيه السودان تحديات كبيرة استراتيجية (تقسيم الدولة وتحدي سد النهضة الإثيوبي والحدود السودانية الأثيوبية) وسياسية (تحقيق التوافق الداخلي) واقتصادية المرجح أنها سوف تتأزم أكثر مع المضي في توجهات إصلاحية تؤدي بالضرورة إلى درجات كبيرة من الألم.
ومع الأزمة في السودان فإن لبنان تتجه بقوة في اتجاه استحكام أزمتها الخاصة حتى بعد تشكيل الحكومة اللبنانية حيث تتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية بسرعة كبيرة في اتجاه الحرب الأهلية ونوبات واسعة من الهجرة إلى الخارج. ورغم وجود مؤشرات إيجابية في الانتخابات العراقية فإن تحرك المنظمات الشيعية نحو رفض نتائج الانتخابات، واستئناف “داعش” لعملياتها الإرهابية، يضع إمكانيات التوافق العراقي في مرحلة مضطربة. وفي تونس ورغم نجاح الرئيس قيس سعيد في اتخاذ خطوة الاستقرار بتشكيل حكومة جديدة، فإنه في ذات الوقت وضع نفسه في مسار صدام مع قوي سياسية ممثلة في اتحاد الشغل وغيره من الجماعات المدنية.
ورغم أن موعد الانتخابات الليبية يقترب في ٢٤ ديسمبر القادم، فإن الاستعدادات لهذه الخطوة لا تزال متخلفة عن بناء الثقة في قيام بناء سياسي جديد يكفل الاستقرار لليبيا. وجدير بالذكر أن الحالة الفلسطينية باتت قائمة على صفيح ساخن بعد الانقسام بين فتح وحماس، والضفة الغربية وغزة، والعجز عن إجراء الانتخابات أو تحقيق المصالحة؛ بينما لا تزال الأوضاع غير مستقرة بين إسرائيل وغزة وداخل الجبهة الفلسطينية بفقدان الثقة في القيادة الفلسطينية. يضاف كل ذلك إلي أوضاع غير مستقرة ناجمة عن حرب اليمن، والأزمة في سوريا، والتوتر بين إيران ودول الخليج، والتوتر بين إيران في ناحية والولايات المتحدة وإسرائيل في ناحية أخري.
كل ما سبق يجري في إطار تطورات هامة على الساحة الدولية ممثلة في أزمة كبيرة تدور حول الطاقة وارتفاع أسعارها على المستوي العالمي. الأزمة هي نتاج زيادة الطلب العالمي على الطاقة بأشكالها المختلفة بسبب بداية الخروج العالمي من أزمة “كوفيد ١٩” وتوجه دول العالم إلى تعزيز إمكانيات النمو ومن ثم الطلب المتزايد علي الطاقة. النتيجة هي سلسلة من ارتفاعات أسعار السلع وفي المقدمة منها الغذاء والمواد الأولية والضغط على سلاسل الإمداد التي ظهرت إبان أزمة الكورونا ولا يبدو لها انفراج مع زيادة الطلب العالمي عليها من أجل تنشيط النشاط الصناعي في البلدان المختلفة.
وسط ذلك كله هناك ثلاثة أنواع من القلق باتت تأخذ شكلا معتادا جديدا في الشرق الأوسط، واعتاد الناس على التعايش معها، أولها: جائحة كورونا، وثانيها: التعايش مع الإرهاب، وثالثها: أن الصين أصبحت قوة عظمي صاعدة.
وتعود هذه التغيرات لوجود متغيرات أساسية في المنطقة منها اتجاهات الإصلاح في الدول العربية، والانسحاب الأمريكي من منطقة تعودت على وجود واشنطن وسعي الدول الإقليمية إلى تولي أمورها بذاتها، مما نجم عنه محاولات لملء فراغ هذا الانسحاب والاتجاه نحو المصالحات الإقليمية والسعي نحو تبني أمن إقليمي جديد كمدخل للتعامل مع المعضلات الإقليمية الحادة التي تضخمت خلال السنوات العشر الماضية.
الجمع ما بين هذه الحالة الإقليمية والأخرى الدولية يعطي مصر الكثير من الفرص، وبعضا من المخاطر. والواقع أن التجربة المصرية خلال السنوات السبع الماضية قد أعطتها الكثير من القدرات المالية والاقتصادية والسياسية التي تجعلها قادرة علي تفادي الكثير من هذه الأزمات. وبعد أن نجحت مصر في تخطي أزمة الكورونا دون أزمات في الغذاء أو الدواء أو العملات الصعبة في العموم، فإنها الآن أكثر قدرة على مواجهة الظروف الاستثنائية العالمية الراهنة.
كل ذلك يدعو إلى كثير من الثبات في استمرار عمليات الإصلاح الداخلية في جميع المجالات؛ والاستمرار في تطوير العلاقات الخارجية بالحفاظ علي خطوط مفتوحة مع كل الأطراف المعنية في كل أزمة دونما تورط في أحابيل هذه الأزمات. إن الرصيد السياسي والدبلوماسي الذي كونته مصر خلال السنوات الماضية يسمح لها بالحركة في الاتجاهات الاستراتيجية المصرية في شرق المتوسط، وفي شمال أفريقيا، وفي الجنوب حيث السودان والقرن الأفريقي وأزمة السد الأثيوبي التي تهدد المصلحة الوطنية المصرية العليا. الحركة السياسية والدبلوماسية من خلال البناء علي ما قامت به من قبل في صالحها وصالح الإقليم، والعالم كله، من خطوات إيجابية نحو الاستقرار والمصالح المشتركة والسلام؛ يسمح لها بالحركة الإيجابية داخل الازمات الراهنة دونما تورط بينما تبني أرصدة إضافية خاصة مع الدول الكبرى (الولايات المتحدة وروسيا والصين) والمنظمات الدولية تساهم في دعم الموقف المصرية تجاه إثيوبيا التي لا تملك أيا من هذه الأرصدة بينما جبهتها الداخلية تعيش الانقسام والحرب الأهلية الذي هو مدان عالميا ويعزل بقوة القيادة السياسية الإثيوبية عن الشرعية الدولية.