د. مصطفي هلال يكتب | وداعاً للمُحضر.. هذا عصر الرقمنة
مقدمة
يُعد قانون الإجراءات الجنائية من أهم القوانين التي تعكس فلسفة الدولة في تحقيق العدالة الجنائية
وضمان التوازن بين مصلحة المجتمع وحقوق الأفراد. ومع صدور قانون الإجراءات الجنائية الجديد في
نوفمبر 2025، برزت العديد من المستحدثات، من أبرزها إنشاء ما يُعرف بـ”مراكز الإعلانات التابعة
للنيابة العامة”، وهي خطوة يُمكن وصفها بأنها تحول جذري في آلية الإخطار القضائي وضمانات العلم
بالإجراءات.
—
أولًا: الأساس التشريعي لمراكز الإعلانات
نص القانون الجديد على إنشاء مراكز أو وحدات متخصصة تحت إشراف النيابة العامة، تتولى عملية
إعلان القرارات والأوامر والإخطارات الصادرة عنها وعن جهات التحقيق.
ويأتي ذلك في إطار سعي المشرّع إلى توحيد جهة الإعلانات وربطها مباشرة بالسلطة القضائية، بعد أن
كانت الإعلانات في القضايا الجنائية تخضع لإجراءات يدوية معقدة يقوم بها قلم المحضرين بما يسمى
المُحضر سالف الذِكر والإعلانات الإدارية، مما كان يفتح الباب أمام البطلان والتأخير والتلاعب وعدم
الإعلان الصحيح وهذا وبصفتي رجل قانون في احدى القضايا التي رأيتها بعيني تم إعلان المتوفي
بالخطأ وهذا بسبب الإعلانات الإدارية .
—
ثانيًا: الطبيعة القانونية لتلك المراكز
تُعد مراكز الإعلانات أجهزة إدارية ذات اختصاص قضائي-فني، تعمل تحت مظلة النيابة العامة، وتتمتع
بسلطات محددة في مجال التبليغ والإخطار.
ولا تمارس هذه المراكز سلطة تحقيق أو اتهام، وإنما تمثل أداة لضمان العلم الحقيقي والمستندي
بالإجراء، ما يضفي على الإعلانات صفة الرسمية واليقين القانوني.
—
ثالثًا: الأثر الإجرائي لإنشاء المراكز
1. الحد من بطلان الإعلانات:
إذ تُوثّق كل عملية إعلان إلكترونيًا، بما يتيح إثبات تمام الإخطار بشكل قاطع أمام القضاء.
2. تسريع الإجراءات الجنائية:
فبدلًا من انتظار المحضر أو رجال الشرطة، سيتم تنفيذ الإعلان فور صدوره من النيابة عبر المركز
المختص.
3. تعزيز ضمانات الدفاع:
لأن الإخطار السليم هو بداية ممارسة حق الدفاع، ويضمن عدم اتخاذ إجراء دون علم المتهم أو محاميه.
4. رقمنة منظومة العدالة:
حيث تُعد هذه المراكز خطوة نحو العدالة الرقمية وربطها بمنصة النيابة العامة الإلكترونية، بما يتماشى
مع استراتيجية الدولة في التحول الرقمي.
—
رابعًا: التحديات القانونية المتوقعة
رغم أهمية هذه الخطوة، فإن تطبيقها العملي قد يثير عدة إشكالات، منها:
مدى حجية الإعلان الإلكتروني في مواجهة المتهم إذا لم يوقع عليه أو يثبَت استلامه فعليًا.
احتمالية الطعن بعدم العلم أو التشكيك في بيانات الإخطار.
الحاجة إلى بنية تحتية رقمية مؤمنة ومتاحة في جميع المحافظات.
لذلك، يوصي بعض الفقهاء بضرورة إصدار لائحة تنفيذية تفصيلية تحدد آليات عمل المراكز وإجراءات
الطعن على الإعلانات الصادرة عنها.
—
خامسًا: التقييم العام
إن استحداث مراكز الإعلانات للنيابة العامة يعكس تحولًا مؤسسيًا نحو إدارة مركزية دقيقة للإجراءات
الجنائية، تضمن سرعة الفصل وعدالة الإخطار.
ويمكن القول إن المشرّع المصري خطا بهذه الخطوة نحو نموذج حديث للعدالة الإجرائية، يُعيد الثقة في
مسار التقاضي ويحد من المنازعات الشكلية.
—
خاتمة
يمثل إنشاء مراكز الإعلانات للنيابة العامة في القانون الجديد نقلة نوعية في تاريخ العدالة الجنائية
المصرية. فهو لا يقتصر على تحديث آلية الإخطار، بل يُعيد تنظيم العلاقة بين السلطة القضائية
والمواطن على أساس من الشفافية والدقة والضمانات القانونية.
ويبقى نجاح هذه التجربة مرهونًا بحسن التطبيق، وبتدريب الكوادر القانونية والتقنية على إدارة هذا
التحول بأسلوب يحقق التوازن بين السرعة في العدالة وصون الحقوق الدستورية.