د. نانيس حامد تكتب | الصحة النفسية والحصار الرقمي

0

لم يعد ضجيج الشوارع هو الأعلى في يومنا، بل ضجيج هواتفنا. تنبيهات متتالية، أخبار متلاحقة، رسائل لا تنام. في كل لحظة، هناك من يطلب انتباهك. ومع كل إشعار، هناك شريحة صغيرة تُقتطع من تركيزك، من هدوئك، وربما من سلامك النفسي.
العصر الرقمي لم يأتِ فقط بتطورات تقنية، بل بعاصفة خفية أصابت أعماقنا: القلق، المقارنة، الشعور بالضغط المستمر. إنها أزمة صامتة، لا تُرى بالعين، لكن آثارها تنعكس في العلاقات، في جودة النوم، وحتى في نظرتنا لأنفسنا.
حين يتحول التقدير الذاتي إلى رقم
في السابق، كان الإنسان يقيس قيمته بتأثيره، بإحساسه الداخلي، أو حتى بعلاقاته الحقيقية. اليوم، صارت “اللايكات” والعملات الرقمية للقبول الاجتماعي. ومع كل تمرير إصبع، يزداد شعور دفين بأننا متأخرون، ناقصون، أو غير كافين.
هذه المقارنة المستمرة تُفرغ الحياة من معناها الفعلي، وتحولها إلى عرض لا ينتهي. حتى لحظاتنا الحميمة صارت تُفكر أولًا في كيف ستُعرض، لا في كيف ستُعاش.
فأصبحت صحتنا النفسية تحت الحصار
فالمحتوى لا يتوقف. كل ثانية هناك ما يستحق “مشاهدته”، لكن لا أحد يخبرك أن دماغك لم يُصمم لهذا السيل المستمر. اضطرابات التركيز، ارتفاع نسب الاكتئاب والقلق، وتزايد الشعور بالإرهاق النفسي كلها مؤشرات على أن الإنسان بدأ يدفع ضريبة الاستخدام المفرط.
لكن ما هو أخطر من ذلك، أن كثيرين لم يعودوا يلاحظون أن هناك خللاً. التعب صار طبيعيًا، والتشتت مقبولًا، والقلق جزءًا من “روتين الحياة العصرية”. وهذا أخطر ما يمكن أن يحدث للوعي الجمعي.
لم نعد بحاجة لصيام رقمي… بل لثورة وعي
فنحن لا نحتاج إلى تقنين استخدام التقنيةفحسب ، ما نحتاجه حقًا هو إعادة تعريف لما يعنيه “أن أكون إنسانًا” وسط هذا الكمّ من المشتتات. لا يجب أن نُستعبد لشاشاتنا، ولا أن تُختصر ذواتنا في ملفات شخصية ومقاطع قصيرة.
فصحتنا النفسية اليوم تتطلب شجاعة:شجاعة أن نقول “كفى” في وجه هواتفنا،شجاعة أن نصمت بينما الكل يتحدث،شجاعة أن تعيش اللحظة كاملة، دون أن توثقها.
هذه الثورة الشخصية الصغيرة قد تكون بداية استعادة أنفسنا من قبضة التكنولوجيا.
في البحث عن المساحة الفارغة
أحيانًا، كل ما تحتاجه هو لحظة هدوء حقيقية. لا صوت إشعار، لا صورة مفلترة، لا مقارنة خفية. فقط أنت، وحقيقتك، وأنفاسك.لا يكفي أن نلجأ إلى أدوات تحكم الوقت أو نحذف التطبيقات، بل يجب أن نعيد ترتيب علاقتنا مع التكنولوجيا بناءً على فهم حقيقي لطبيعة الإنسان واحتياجاته النفسية.
التحكم في المحتوى لا في الوقت فقط:
فلا يكفي أن نحدد عدد الساعات التي نقضيها أمام الشاشات، بل الأهم هو ماذا نستهلك خلالها. المحتوى الذي يغذّي العقل ويُنعش الروح يختلف تمامًا عن محتوى يُشعل المقارنات أو يُغرقنا في ضوضاء بلا معنى،تخصيص “مساحات صمت رقمية” يوميةساعة على الأقل كل يوم بدون هاتف، بدون شاشات، بدون موسيقى. مجرد صمت. هذه المساحة ليست ترفًا بل ضرورة لإعادة ترتيب الداخل.
ولنجعل من الهاتف أداة لا مصدر وجود. أن نستخدمه لتعلّم شيء، للتواصل الحقيقي، لا للهرب من الواقع أو القفز من لحظة إلى لحظة دون تذوق.
في زمن تُسرق فيه الانتباهات، تصبح استعادة الصحة النفسية عملاً نضاليًا. فلنخضه عن وعي… ولأجل أنفسنا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.