في ظل ما نشهده اليوم من تحولات تشريعية وخطوات سياسية تهدف إلى استكمال البنيان المؤسسي للدولة المصرية، يبقى السؤال الأهم حاضرًا في ضمير كل من يؤمن بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية: أين الاشخاص من ذوي الإعاقة من هذه المسيرة الديمقراطية؟ إن الحديث عن التمثيل البرلماني لا يمكن أن يكتمل دون التطرق إلى هذه الفئة التي تمثل ثلث المجتمع المصري، فعددهم ليس قليلًا ولا وجودهم هامشيًا، بل هم ركن أصيل من أركان هذا الوطن.
لقد خصص القانون للدائرة التي تضم 42 مقعدًا، مقعدًا واحدًا فقط لذوي الإعاقة، بينما القائمة التي تضم 102 مقعدًا لا تحتضن سوى ثلاثة مقاعد لهم. وهنا يثور التساؤل العادل: هل هذه الأرقام تعكس حجم ذوي الإعاقة في المجتمع؟ هل هي كافية لتكون أصواتهم مسموعة وقراراتهم مؤثرة؟ الحقيقة أن الأمر يتجاوز فكرة المقعد أو العدد، لأنه يرتبط بجوهر التمثيل السياسي العادل.
الاشخاص من ذوي الإعاقة ليسوا مجرد شريحة تنتظر مقعدًا رمزيًا يرفع عن الحكومة حرج التقصير، بل هم قوة بشرية وفكرية حقيقية، لهم مطالب وقضايا لا يعلمها إلا من عايشها، من التعليم الدامج، إلى بيئة العمل، إلى المواصلات، إلى الصحة، إلى الدمج الاجتماعي والثقافي الكامل. إن وجودهم في البرلمان ضرورة لصياغة قوانين واقعية، لأن من لم يجرب الإعاقة قد يضع نصوصًا تشريعية جميلة لكنها قد لا تلامس احتياجاتهم اليومية.
والسؤال الأعمق هنا: لماذا نختصر ذوي الإعاقة في نسبة محدودة من المقاعد بينما هم يمثلون ثلث المجتمع؟ هل المطلوب هو مجرد صورة تكتمل أمام الكاميرات وقوائم الدعاية الانتخابية، أم تمثيل فعلي حقيقي يضمن لهم دورًا قياديًا في اتخاذ القرار؟ إن الاشخاص من ذوي الإعاقة لا ينقصهم الوعي ولا الثقافة ولا القدرة على التغيير، بل ينقصهم فقط أن تفتح لهم الأبواب دون شروط غير منطقية أو عوائق بيروقراطية مقيتة.
حين يدخل البرلمان نائب من ذوي الإعاقة، فهو لا يمثل نفسه، بل يمثل ملايين المصريين ممن يواجهون يوميًا تحديات صامتة لا يسمعها أحد، من غياب إشارات الطرق الدامجة للمكفوفين، إلى تعقيدات استخراج الأوراق الرسمية، إلى برامج التعليم التي لا تراعي جميع أنماط التعلم. إنه لا ينقل مجرد مطالب شخصية، بل ينقل واقعًا مجتمعيًا كاملاً يراه البعض بعيدًا عنهم، لكنه في الحقيقة جزء من هوية هذا الوطن.
إن تمثيل ذوي الإعاقة ليس مكرمة من أحد، بل حق دستوري وإنساني وأخلاقي. فالديمقراطية الحقيقية لا تعني أن يحكم الأغلبية وحدهم، بل أن تكون الأقلية أيضًا شريكًا أصيلاً في القرار والتشريع. وحين يشارك ذوي الإعاقة في البرلمان بقوة، يصبح الوطن أكثر رحمة وعدالة، لأن من يراعي الضعيف أولًا يصبح قويًا أمام العالم، ومن يفتح الطريق لمن يتعثر، يفتح ألف طريق أمام تقدمه هو نفسه.
ولا يمكن للكيانات السياسية أن تغفل هذه الحقيقة. إن واجبها الآن أن تفسح المجال أمام الكفاءات من ذوي الإعاقة، فهم ليسوا أصواتًا انتخابية فقط، بل عقولًا مبدعة وإرادات جبارة، قادرة على إثراء العمل العام والسياسي بقصص نضال وإنجاز لا تنتهي. لقد استطاعوا تحقيق المعجزات في الرياضة والفن والتعليم وريادة الأعمال، أفلا يستطيعون تحقيق معجزات تشريعية لصالح كل المصريين؟
إن البرلمان القادم لا يجب أن يقتصر على تمثيل رمزي خجول لهم، بل يجب أن يكون منبرًا لأصواتهم الحقيقية، ومنصة لإعادة النظر في كل القوانين واللوائح التي لم تراعِ حقهم في بيئة مهيأة عادلة. وحين نصل إلى مرحلة يصبح فيها تمثيل ذوي الإعاقة قويًا، نصنع تحولًا اجتماعيًا شاملًا، لأن المجتمع الذي يرى ذوي الإعاقة قادة في مجلس النواب والشيوخ، سيؤمن بحقهم في القيادة في كل مجال.
العدالة لا تقاس بعدد المقاعد فحسب، بل بمدى القدرة على صنع القرارات المؤثرة. وما زلنا اليوم أمام فرصة تاريخية لنثبت للعالم أن مصر التي تبني جمهوريتها الجديدة، قادرة على بناء برلمان يحتوي أبناءها جميعًا دون تمييز أو تهميش أو تجاهل. فذوو الإعاقة هم الضمير الحي لهذا الوطن، وحين نسمح لهم بالتواجد الحقيقي نصنع برلمانًا أكثر إنسانية، ووطنًا أكثر كرامة، ومجتمعًا أكثر نضجًا.
وفي النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا أمام كل صاحب قرار وكل حزب وكل مواطن: هل نريدهم شركاء حقيقيين أم مجرد شهود صامتين؟ وهل سنظل نحصر تمثيلهم في مقعد واحد في دائرة 42 أو ثلاثة مقاعد في قائمة 102، أم سنفتح لهم الباب ليتحولوا من أرقام في قانون إلى صناع حقيقيين