د. نورهان سامي موسى تكتب | الذكاء الاصطناعي والتحكيم التجاري الدولي

0

في عالم تزداد فيه المنازعات التجارية الدولية تعقيدًا وتشابكًا، يظل التحكيم التجاري‌
الدولي، هو الوسيلة المفضلة لحل هذه النزاعات، لما يوفره من مرونة وسرعة وخصوصية.‌
لكن ما يشهده هذا المجال من تحول رقمي عميق، بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي، يجعلنا‌
أمام لحظة مفصلية قد تعيد تشكيل ملامح العدالة الدولية الخاصة.
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية مساعدة، بل أصبح شريكًا فعّالًا في العملية‌ التحكيمية. أولى تجليات هذا الدور تظهر في تسريع الإجراءات؛ حيث يمكن لخوارزميات‌
متقدمة تحليل آلاف الوثائق القانونية خلال دقائق، وفرز الأدلة والمستندات بكفاءة تفوق‌ قدرات البشر. في نزاع معقّد يتطلب تحليل عقود متعددة بلغات مختلفة، يمكن لنظام ذكي‌ أن يختصر أسابيع من العمل إلى ساعات قليلة.
أما في دعم اتخاذ القرار، فإن الذكاء الاصطناعي لا يُصدر حكمًا، لكنه يوفر أدوات تحليل‌ قانوني ذكية، تقترح سيناريوهات وتستعرض سوابق قضائية مشابهة، ما يساعد هيئة‌
التحكيم على اتخاذ قرارات أكثر اتساقًا وموضوعية. هذا لا يلغي دور المحكم البشري، بل‌ يعززه ويجعل من قراراته أكثر إحكامًا.
في الجانب الإداري، يتيح الذكاء الاصطناعي إدارة القضايا إلكترونيًا من الألف إلى الياء:‌ جدولة الجلسات، وإرسال التذكيرات، وحفظ الوثائق، وترتيب المراسلات، وكل ذلك عبر‌ منصات مؤتمتة تعمل بلا انقطاع. وهو ما يقلل من التكاليف، ويضمن الحفاظ على مسار‌
التحكيم منظمًا وشفافًا.
أحد الابتكارات اللافتة أيضًا، هو استخدام الذكاء الاصطناعي في اختيار المحكمين. من‌
خلال تحليل سِيرهم الذاتية، وقراراتهم السابقة، وحتى توجهاتهم القانونية، تستطيع الأنظمة‌ الذكية اقتراح محكمين يتوافقون بدقة مع طبيعة النزاع، ما يقلل من احتمالات الانحياز أو‌ ضعف الكفاءة.
ولأن التحكيم بطبيعته دولي، فلا يمكن إغفال دور الذكاء الاصطناعي في كسر الحواجز‌ اللغوية عبر أدوات الترجمة الفورية، وتحليل النصوص القانونية بمستوى متقدم من الدقة،‌ مما يفتح المجال أمام مشاركة أوسع وأكثر شمولًا للأطراف من خلفيات مختلفة.
لكن مع هذه الثورة، تبرز تحديات لا يُستهان بها. هل يمكن الوثوق بخوارزمية في ملف‌ تحكيمي حساس؟ من يتحمل المسئولية إن أخطأت النتائج التي تولدت عنها؟ وماذا عن‌ خصوصية البيانات وسريتها، خاصة إذا تم تخزينها على خوادم سحابية؟ الأسئلة كثيرة،‌
والإجابات تحتاج إلى أطر قانونية واضحة وتنظيمية دقيقة.
ختامًا، لا شك أن الذكاء الاصطناعي يعيد رسم حدود العملية التحكيمية، دون أن يُقصي‌ العنصر البشري. بل لعل التحدي الأكبر الآن هو في خلق توازن رشيد بين الذكاء البشري‌ والاصطناعي، بما يضمن عدالة نزيهة، وسريعة، وفعالة في قلب عالم يتغيّر بوتيرة غير‌
مسبوقة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.