د.هاني صبري حنا يكتب | تأملات في الهوية

0

يوما ما كتب الفيلسوف الألماني ” أرثر شوبنهاور” (1788-1860م) رغم التحولات التي يحملها الزمن إلى الإنسان، يبقى فيه شيء لا يتغير.. إنها الهوية!. وعلى الرغم من البعض يعتبر تلك بديهية لا تحتاج إلى برهان، إلا أنها تعد من أعقد القضايا التي تواجه الكثير من الشعوب في عالمنا المعاصر؛ لأنه عندما يوجد شعب في حالة حيرة تجاه موضوع الهوية، فإن ذلك يعني أن هناك أسباباً مختلفة قد شوشت عمليات تلقي إرث الماضي بالنسبة لعلاقات الأجيال فيها، وإذا تطورت هذه الحيرة وأصبحت سمة مميزة لعدد من الأجيال على التوالي، فإن هذا دليل قاطع على أن هناك خطراً داهماً يهدد هذه الجماعة وهو خطر “التفكك”، وهذا من أخطر ما يواجه الشعوب والمجتمعات.
إن قراءة سريعة لأزمة الهوية نجد أنها ليست مشكلة مجتمـع بذاته، ففي كل مكان تقريباً تساءل الناس، وأمعنوا النظر ما هو مشترك لديهم وما يميزهم عن الشعوب الأخرى، وتساءلوا: من نحن؟ والى أين ننتمي؟ فاليابانيون يتنازعون على ما إذا كـان مـوقعهم وتـأريخهم وثقافتهم تجعلهم آسيويين؟ أم أن ثروتهم وديمقراطيتهم وحداثتهم تجعلهم غربيين؟ كما وصفت إيران بأنها “أمة تبحث عن هوية”، وتركيا “أزمة هوية فريدة” وروسيا “أزمة هوية عميقة”، مما يقود إلى القول بأن أزمات الهوية الوطنية ظاهرة عالمية.
وإذا كانت “الهوية” لغوياً من “هو” ضمير المفرد الغائب المعرف بأداة التعريف “الـ”، وتعني “أنا نفسي”، وفي الإنجليزية Identity مشتق من الأصل اللاتيني الذي يعني “الشيء نفسه”، فإن ذلك يقودنا إلى استكشاف أن الهوية ليست مجرد لفظ عابر، بل شعور متواصل بأنفسنا مستمد من أفكارنا، وذاكرتنا، أهدافنا، قيمنا، وتجاربنا، واحساسنا بالفردية، والاستقلال، والتفرد.
إنها تلك البصمة التي تبقي راسخة رغم التحولات التي يحملها الزمن، والشفرة الفريدة التي صنعها أجدادنا وتناقلتها الأجيال لتكون مصدر الطاقة وقوة الدفع والمحرك الدائم لنظرتنا نحو أنفسنا ونحو العالم من حولنا.
لذا، فإن كل هوية تتجسد في شخصية كل إنسان، حيث تعبر عن الكيفية التي يدرك بها شخصاً ما أو شعب ما ذاته، وكيفية تمايزه عن الآخرين، فهي تستند إلى مسلمات مرتبطة تاريخياً بقيمه وأفكاره ومعتقداته وتراثه التراكمي. فالهوية ليست أحادية البنية، أي لا تتشكل من عنصر واحد، سواء كان الدين، أو اللغة، أو العرق، أو الثقافة، وإنما هي محصلة تفاعل هذه العناصر كلها، وهي التي تميز أصحاب هوية ما مشتركة عن سائر الهويات الأخرى.
ببساطة إنها تعني أننا كأفراد ننتمي إلى وطن، بما له من قيم أخلاقية وجمالية تميزه، ويتضمن ذلك أيضا الأسلوب الذي نستوعب به تاريخه وتقاليده وتراثه وأسلوب حياته، وإحساسنا بالخضوع له والمشاركة فيه، أو تشكيل قدر مشترك منه، وتعد بالنسبة لكل “مواطن” منا نوعاً من المعادلة الأساسية التي تقرر الطريقة التي ننتسب بها إلى وطننا.
لقد أكدت المادة ( 47) من الدستور على التزام الدولة بالحفاظ على الهوية الثقافية المصرية، لذلك فإن الحديث عن الهوية ليس نوعاً من الترف أو “الفزلكة” بل أنه يمثل حجر الزاوية في بناء الوطن، وقضية “أمن قومي” بالغة الحساسية والأهمية، لكونها تتصل بجوهر “المواطنة” التي تضمن بقاء الوطن واستقراره وتطوره، كونها تمنح الإنسان المعنى والأمل وأن جهوده لن تذهب هباء فيستمر بالبناء والعمل، كما إنها طوق النجاة والملاذ الذي نستطيع به مواجهة محاولات ” أهل الشر” النيل من هوية المجتمع المصري، وزعزعة استقراره، ودفعه للسقوط في هاوية التطرف والعنف واللاتسامح.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.