د. هاني صبري حنا يكتب | رحلة العائلة المقدسة.. تراث على خريطة الهوية المصرية

0

منذ أيام، احتفلت الكنيسة القبطية (المصرية) الأرثوذكسية في اليوم الرابع والعشرين من شهر بشنس (التقويم القبطي) – والذي يوافق 1 يونيو – بذكري دخول العائلة المقدسة إلى مصر. ذلك الحدث الذي حفظته الكنيسة بكل تفاصيله ليكون تذكاراً سنوياً على أقدم رحلة مقدسة وموثقة تاريخياً ودينياً، فقد سارت في بلادنا من أقصاها إلى أقصاها لتباركها، وما زالت الأماكن التي زارتها مصدر بركة لكل المصريين وللعالم، وشاهد على أن مصر واحة الأمان وموطن الحضارة ومهد الأديان السماوية.
ففي احتضانها الأنبياء؛ منذ إبراهيم، ويعقوب، ويوسف الصديق الذي أصبح وزيرًا لملك مصر؛ إلى موسى النبي الذي تهذب بحكمة المصريين، لم يكن غريباً أن تلجأ إليها العائلة المقدسة، ويخطو الطفل “يسوع” على أرضها أولى خطواته على الأرض. وذلك كما ورد بالكتاب المقدس: إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلًا قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ. فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلًا وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ. (مت 2: 13-15).
بحسب رأي أفضل المحققين، ولد السيد المسيح سنة 349 لبناء مدينة رومية، وفي عمر السنة والنصف تقريباً جاء إلى مصر محمولاً على كتف القديسة العذراء مريم والقديس يوسف النجار، وقد مكثت “العائلة المقدسة” في رحلتها حوالي أربع سنوات، حيث تشير بردية كشفت عنها جامعة كولون الألمانية عثر عليها بالفيوم مكتوبة باللغة القبطية الصعيدية (أبوكريفي) تعود إلى القرن الرابع الميلادي، ترجح أن يكون عمر المسيح عند دخوله مصر سنة و8 شهور و7 أيام، وعمره وقت خروجه 5 سنوات و7 شهور و7 أيام، وبذلك تكون فترة الرحلة 3 سنوات و 11 شهراً.
وفي رأيي إن تلك الرحلة المقدسة قد تجاوزت الحيز الديني والتاريخي الذي حدثت فيه، فقد سطرت العائلة المقدسة رحلتها المباركة على خارطة الهوية المصرية بشكل واضح، فعندما تتأمل الأيقونات (اللوحات الفنية) التي تخيلها الرسامين لتلك الرحلة عبر ربوع مصر من رفح في سيناء إلى جبل قسقام في أسيوط، مروراً بالدلتا وعبور نهر النيل، سوف تجد – إلى جانب تصوير لحظات المعاناة والحماية الإلهية – ارتباطاً وثيقاً بالطبيعة الجغرافية لمصر، النيل، الصحراء، الهضاب، المغاير، الزراعة، النخيل، الأهرامات، فكل مرحلة من مراحل الرحلة موصوفة داخل إطار جغرافي وثقافي محلي معين، وهو الأمر الذي يجعل ذلك المسار الروحي فريداً نادراً معبراً عن التنوع المصري الفريد.
وبنظرة خاطفة في التراث الشعبي سوف نجد المثل المصري الشهير “هو أنا هضرب الأرض تطلع بطيخ..!؟” والذي يرتبط بمعجزة إلهية حدثت لحماية العائلة المقدسة. وذلك حينما استضافها أحد الفلاحين المصريين، وعرض عليهم الماء والطعام والاستراحة، فباركته القديسة العذراء مريم لإكرامه لهم وانصرفوا، وكان قد غرس في نفس اليوم بذور البطيخ، ولكن في صباح اليوم التالي، وجد أن البذور التي زرعها في اليوم السابق طرحت بطيخ مكتمل النمو، ولم يصدق الفلاح نفسه، وحينما مر به رجال هيرودس سألوه عن العائلة المقدسة، فأخبرهم أنه رآهم بالفعل أمس وهو يضع بذور البطيخ، ووجدوا أن البطيخ قد طرح ثماره، وظنوا أن العائلة مرت من عدة شهور لأن البطيخ يستغرق شهور لينمو، وعادوا مرة أخرى إلى فلسطين. وقد انتشر خبر هذه الحادثة العجيبة بين المصريين وصارت مضربا للمثل…! كما بنى في موضع هذا الحقل ” كنيسة العذراء العزباوية” بالقاهرة التابعة لدير السريان، وما يزال فيها البئر الذي شربت منه العائلة المقدسة.
حقيقة الأمر، إن تذكار دخول العائلة المقدسة إلى مصر يمثل جزءاً أصيلاً من التكوين الثقافي المصري، فبجانب تأثيرها الروحي والثقافي في أكثر من 45 نقطة زارتها، فقد قدمت تلك الرحلة تراثًا إنسانيًا عظيمًا ورسالة سلام ومحبة وأمان، جعلت من أرض مصر ليس فقط ملاذاً لهروب تم بترتيب إلهي، بل حضناً دافئاً وموطناً مباركاً احتضن أقدس الأقدام، وكتب على ترابه فصولاً من القداسة والخلود، وحفرت في ثقافته هوية جامعة متسامحة تقبل الجميع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.