راجي عامر يكتب | زمن الإذاعات الأهلية
تكدس السيارات عند تلك الإشارة المغلقة جعل خريطة تحديد المواقع “الجي بي اس” تتحول إلى ما يشبه الأوعية الدموية، وهو ما جعلني أعلم إنني سأستغرق وقتًا أطول قبل الوصول إلى وجهتي، لكنها فرصة للاستماع قليلًا إلى الإذاعة في محاولة لتسلية أوقات الانتظار.
أدرت المؤشر على محطات إذاعية مختلفة، لمتابعة ما الذي ستقدمه المحطات بمناسبة اليوم العالمي للإذاعة والذي يوافق الثالث عشر من فبراير من كل عام، وهي المناسبة التي جعلتني أتذكر تاريخ الإذاعة المصرية وتجربتها التي مرت بمراحل عديدة قبل أن تصل إلى ما حققته من تطور ونضج واحترافية، فمنذ قرابة قرن كامل، عند انطلاق تجربة “الإذاعات الأهلية”، لم تكن هناك قواعد وضوابط واضحة تحكم عملها.
كانت البداية في العشرينيات من القرن الماضي عندما ظهرت في مصر الإذاعات الأهلية كتجربة جديدة بلا تنظيم حقيقي لذا استخدمها أصحاب هذه الإذاعات بما يروق لهم، فتارة تُستخدم للإعلان عن بضائع، وأخرى في بث رسائل غرامية، أما آخرون فقد استخدموها في إطلاق الشتائم صوب خصومهم، وتعد الواقعة الأعجب هي استخدام إحدى السيدات لمحطة إذاعية في تسهيل تجارتها بالمخدرات، وجاءت الواقعة حينما قامت هذه السيدة بدفع مبلغ مالي كاشتراك في أحد المحطات الأهلية على أن تذيع لها الإذاعة أسطوانتين فقط هما ” الجو رايق” لمحمد عبدالوهاب، و “الجو غيم” لصالح عبد الحى “، بشرط أن تقوم المحطة بقطع ما تذيعه لإذاعة أسطوانة من الاثنتين تحددها السيدة في أي وقت تريده عند اتصالها تليفونيًا، وبالفعل استمر هذا الاتفاق بين السيدة والمحطة إلى أن فوجئت المحطة يومًا بالبوليس يحاصرها و يقبض على صاحبها، ويستدعي محمد عبدالوهاب وصالح عبدالحي للتحقيق في النيابة وذلك بعدما تم القبض على عصابة لتهريب المخدرات تتزعمها هذه السيدة والتي تتواصل مع أفراد العصابة وتوجه إليهم التعليمات عن طريق الأغاني، فإذا أذاعت المحطة أغنية “الجو رايق”، فهذه كلمة السر بأن الأجواء مناسبة لتهريب المخدرات، أما إذا أذاعت المحطة أغنية “الجو غيم” فهذا معناه أن البوليس بالمرصاد وعليهم تأجيل أعمالهم الإجرامية.
النظرة السريعة إلى الكوارث التي ارتكبتها الإذاعات الأهلية قد توحي بأن التجربة لم يكن بها سوى الأخطاء لكن الحقيقة إنها امتلأت بالإيجابيات فقد كانت نافذة لمواهب كثيرة بدأت شهرتها من خلالها، فمن خلالها انطلق صوت فريد الأطرش وأسمهان، واستمع الجمهور إلى مونولوجات إسماعيل ياسين وغيرهم من المبدعين، كما يُحسب للإذاعات الأهلية ابتكارها العديد من البرامج والمواد الإذاعية التي استفادت منها لاحقًا المحطة الحكومية عند إنشائها.
هذه الإذاعات الأهلية، بكل ما عانته من غياب للتنظيم، لم نعاصرها، بل قرأنا عنها، لكننا نعاصر ونعاني منذ أكثر من عقد من تجربة تشبه الإذاعات الأهلية، في غياب التنظيم والضوابط الكافية، وهي “المواقع الاجتماعية” التي تعد جزء من ثورة تكنولوجية جديدة أظهرت بعض السلوكيات الخاطئة التي تحتاج المزيد من الوقت والتجربة والتعلم من الأخطاء حتى الوصول إلى مرحلة النضج والاستفادة من مزاياها وتجنب عيوبها.
إذا كانت الإذاعات الأهلية قد أعطت الفرصة، في بدايات القرن العشرين، لأصحاب المواهب في مجالات التأليف والتلحين والغناء للظهور والانتشار، فقد أعطت المواقع الاجتماعية الفرصة لأصحاب المواهب في القرن الحادي والعشرين للحصول على مكانتهم وتعريف الجمهور بهم بعيدًا عن محدودية الفرص في الإعلام التقليدي، ومثلما استفادت الإذاعة الحكومية من الإذاعات الأهلية في وضع برامجها وموادها الإذاعية فقد استفادت البرامج التليفزيونية من المواقع الاجتماعية في تحديد أجندة العمل والموضوعات التي تشغل الجمهور، وفي الماضي كان هناك ضرورة لتنظيم عمل الإذاعات الأهلية، والآن هناك ضرورة لوضع آليات صارمة لضبط المواقع الاجتماعية حتى لا تستمر هذه المواقع في تذكيرنا بزمن الإذاعات الأهلية.
* راجي عامر، كاتب صحفي وإذاعي.