Artificial intelligence (AI) concept. Hand touch tablet brain with shining wireframe, Neural networks in light bulb of business networking technology innovation.
أصبحت اللغة اليومية بين الناس حقل ألغام. فالكلمة لم تعد تُستخدم للبناء، بل للهدم أحيانًا. والتحية فقدت معناها، والحياء تراجع أمام “التجرؤ اللفظي”. فهل ما زال للخطاب مهذبٌ موقع؟ وما هو المعيار الأفضل في التعامل؟ أهو المعاملة بالمثل؟ أم الارتقاء في الرد كما في الآية الكريمة؟
“كما تُخاطب تُخاطب، وكما تُحيي تُحيى” – منطق المعاملة بالمثل رائج منذ القدم. يقوم على العدالة التبادلية: من يحترمني أحترمه، ومن يشتمني أشتمه، ومن يُقصّر معي لا ألزم نفسي بالإحسان إليه. من إيجابيات هذه القاعدة أنها تردع الوقاحة وتنشر المسؤولية الفردية عن السلوك، لكنها بالمقابل تُكرّس “رد الفعل” لا المبادرة، وتؤدي إلى دوامة من التوتر والانفعال، وتُبرر الانحدار الأخلاقي، إذا كان الطرف الآخر سيئًا. ومثال على ذلك: رجل في طابور يصرخ على من أمامه، فيرد عليه الآخر بنفس الصوت والأسلوب… ينتهي الأمر بشجار. النتيجة؟ لم يحترم أحد، ولم يُحلّ الخلاف، بل تصاعد.
تأمر الآية الكريمة بالرد على التحية، إما بمثلها أو بأفضل منها، وتفتح باب الإحسان في العلاقات اليومية. هذه القاعدة لا تقوم على رد الفعل، بل على الارتقاء بالرد، أي على تجاوز السلوك السلبي دون الانحدار إليه. من إيجابياتها أنها تخلق بيئة إيجابية وإنسانية، وتُربّي النفس على كظم الغيظ، وتُصلح الخطاب الاجتماعي وتكسر دائرة العنف اللفظي. أما سلبياتها، فهي ظاهرية فقط، إذ قد تُفهم على أنها ضعف، وتحتاج إلى قوة نفسية وانضباط كبير. ومثال على ذلك: رجل يُلقي التحية: “السلام عليكم ورحمة الله وبركاته”، فيُرد عليه: “وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته”، النتيجة؟ احترام متبادل، وطمأنينة في النفوس.
في الماضي، كانت التحية تبدأ غالبًا بالسلام والابتسامة، وتُرد بأفضل منها، ما يؤدي إلى تقوية الروابط، والمحبة والاحترام. أما في الحاضر، فتُستبدل التحية بعبارات مثل: “هاي”، “أهلين”، أو تُقابل بتجاهل أحيانًا، ويُرد عليها بفتور، ما يؤدي إلى فتور في العلاقات وتوتر مستمر. المشكلة أن الخطاب اليومي فقد حياءه ودفئه، وحلّ محله “برود تواصلي”، وكأن المجتمعات فقدت ذاك الحياء الجماعي الذي كان يزين اللغة.
الحياء ليس مجرد خجل، بل سلوك ضابط للكلمة قبل أن تُقال. في الماضي، حتى المزاح كان ضمن حدود، وكانت المجالس تحفظ الألقاب، وتُراعى المقامات. أما اليوم، تُنادى الأم باسمها في الشارع، ويُمازح الرجل المرأة بما يخدش، ويُضحك الأطفال على ألفاظ كانت تُعاقب بالأمس. قال النبي محمد (ص): “الحياء من الإيمان.”، فكيف نقبل أن يُطرد الحياء من الخطاب، ونزعم أننا نحيا بكرامة؟
المعاملة بالمثل تصلح فقط إن كانت بين طرفين متزنين. لكن في زمن اختلطت فيه المستويات التربوية، والانفعالات اللحظية، فإن “الرد بأحسن منها” هو السبيل الأمثل لكسر دوامة العنف اللفظي، وبناء مجتمع متماسك. ليس ذلك ضعفًا، بل قوة منضبطة، تجعل من الإنسان قدوة لا نسخة مشوهة ممن يسيء إليه.
لا تظهر الأخلاق في المواقف الكبرى فقط، بل تبدأ في طريقة السلام، ونبرة الصوت، ومتى نصمت ومتى نتكلم. والحياد أمام الانحدار الأخلاقي ليس حياءً، بل تهاون يُطيل عمر الانحدار. فلنختر من الآن: أن نبدأ بالتحية لا بالتجاهل، أن نرد بأفضل مما سمعنا، وأن نُعيد للحياء كرامته، لأنه إن ضاع، ضاعت معه كل قيم الإنسان.