رضا سليمان يكتب | الريف الحائر بين الإنتاج والاستهلاك

0

نشأتُ في الريف المصري “الرائع”، حيث شاهدتُ في معظم منازل قريتي، بل وفي كل القرى، خيرات الريف، والتي كانت بطبيعتها تُشكِّل مشروعات صغيرة غير رسمية. فكانت سيدة المنزل الريفي تقوم بمهام يومية تُعدّ في حد ذاتها مشروعات مصغرة. وإن أحصينا أعمال سيدات الريف لوجدنا أنهن ينتجن ما يعادل أو يفوق ما تدره مشروعات عملاقة، تحتاج عادةً لمليارات الجنيهات لتمويلها.
دعونا نعود بالزمن لنشاهد سيدة ريفية بسيطة، وهي تمارس تفاصيل حياتها اليومية، ونلاحظ معها ناتج عملها المنزلي. تبدأ يومها قبل الجميع، حيث تدخل إلى الحظيرة حاملة الطاجن (وعاء من الفخار، يستخدم في حلب اللبن)، لتحلب جاموستها. تعتني بها في حنان، ثم تخرج بحمولة من اللبن الحليب، تصل إلى ستة كيلوجرامات يوميًا، تُستخدم في إنتاج القشدة، والسمن البلدي، والجبن القريش، وصناعة الأرز المعمر، وأنواع مختلفة من الحلويات. يكفي هذا الإنتاج أفراد الأسرة، وحينما يفيض عن الحاجة، تخزنه سيدة المنزل، وتوزعه على الجيران والأقارب، فيعم الخير على الجميع.
ثم تتوجه بعد ذلك إلى تربية الدواجن من فراخ بلدي، بط، وأوز، وتُطعمها. وعند إعدادها طعام الغداء، تأتي بفرخة أو بطة من تربيتها وتُشعل “الكانون” لطهو الطعام باستخدام الأعشاب والأعواد الجافة، فتحصل على وجبة لذيذة، تكفي الأسرة. أما الزوج، فيربي ماشيته، ويزرع أرضه، فيأتي بما تأكله الحيوانات من البرسيم وأعواد الذرة الخضراء، إضافة إلى خضراوات، يستخدمها أفراد الأسرة طوال العام. وهكذا يتكامل الاكتفاء الذاتي، ما يُغني هذه الأسر عن شراء معظم احتياجاتهم الغذائية.
وفقًا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن نسبة سكان الريف المصري، تصل إلى 57% من سكان مصر. ولو افترضنا أن 50% منهم كان يمارس هذا النمط الإنتاجي، فهذا يعني أن ربع سكان مصر، كان يحقق الاكتفاء الذاتي، ويقلل من الطلب على السلع.
من جهة أخرى، هناك مشروعات صغيرة مرتبطة بهذه المشروعات، مثل صناعة الفخار المستخدم في المنازل، وصناعة الحصر، ومشروع ماكينة الطحين، وصناعة الغزل للصيد. غير أن التغيرات الاقتصادية وارتفاع الأسعار، أثرت في هذا النمط الإنتاجي، حيث وصلت تكلفة شراء الكتكوت من جنيه واحد قبل عشرين سنة إلى أربعين جنيهًا اليوم. ونتيجة لهذه المتغيرات، تحولت بيوت الريف من إنتاج الأغذية إلى استهلاكها، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار، نتيجة زيادة الطلب.
يستلزم الوضع الحالي حلولًا جذرية، لا تأتي من القطاع الخاص وحده، بل من الدولة عبر دعم المشروعات الصغيرة، وتوفير أساسياتها، مثل الكتاكيت، والأعلاف، والأدوية، والأسماك، ما يمكن أن يسهم بشكل إيجابي في تحسين الوضع الاقتصادي للدولة. فهل تعود الأيام التي كان الريف فيها منتجًا مكتفيًا ذاتيًا؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.