رضا سُليمان يكتب | جلال عامر .. فيلسوف الغلابة
شهدت الساحة الإعلامية بعد أحداث ثورة 25 يناير 2011 الكثير من التغيرات، وكانت الصحف المصرية منبرًا للكتاب وأصحاب الرأي والرؤى، ولما كنا فى فترة مهمة من تاريخ مصر والعالم العربي، وكأننا فى مرحلة ميلاد جديد كانت الآراء كثيرة، و وجهات النظر متباينة، وكل رأي له ما يدعمه ويساهم فى خلق قاعدة جماهيرية له، وكان من الضروري أن تصل مثل هذه الآراء إلى عدد أكبر من الجماهير لأننا ببساطة نعاني من القِلة أو الندرة القرائية، لذا اقترحت عمل برنامج إذاعي تحت اسم “مقالات مسموعة”، يعتمد فى الأساس على أن يقدم الكاتب الصحفي، صاحب المقال، المقال الذى كتبه فى جريدة ما، بصوته فى البرنامج الذي يذاع على أثير الإذاعة المصرية، إذاعة البرنامج العام، الشبكة الرئيسية. قبل أن أبدأ إذاعة الحلقات على الهواء كان من الضروري أن أتفق مع عدد من الكُتاب (وهذه مرحلة الإعداد) لشرح الفكرة العامة للبرنامج ثم تحديد موعد لقاء داخل الإذاعة للبدء فى تسجيل الحلقات (وهنا تأتي المرحلة التالية وهي إخراج البرنامج)، وكان أن تواصلت مع عدد من الكُتاب أصحاب أعمدة صحفية شهيرة، وطالت مرحلة المفاوضات معهم، لأن البرنامج فيما يبدو سهلًا بسيطًا لكنه فى الحقيقة من أصعب البرامج، لأن مَن يكتب المقال فى غرفة مكتبه ليس مثل مَن يجلس أمام ميكرفون الإذاعة، حركة القلم فوق الورق ليست مثل الأداء الصوتي الذى يحتاج إلى خامة صوت خاصة وإلى قدرة على التلوين بما يتفق مع المعنى الكامن خلف كل كلمة وجملة. وكان ممن أرسلت إليهم رسالة على الإيميل، لعدم وجود سابق معرفة بيننا، الكاتب الصحفي جلال عامر، فقد كنتُ من المعجبين بكتاباته من قبل الثورة وقد استمر على منهجه بعدها. وفى رسالتي التى شرحتُ فيها فكرة البرنامج تركت اسمي ورقم تليفوني، وفى اليوم التالي يرن هاتفي برقم غير مسجل، وبمجرد فتح الخط أتاني صوته رائقًا يحمل دعوة صداقة أو أخوة وهو يقول “أهلا يا أستاذ رضا .. أنا جلال عامر”، ويدور بيننا حوار رائع ينتهي باتفاق على موعد للتسجيل، والحقيقة أن البرنامج كان “مجاني أو تطوع” من الضيف، فلن يتقاضى أي أجر، وهذه جزئية جعلت بعض الكُتاب يتراجعون، لكن الأستاذ جلال عامر لم يهتم بهذه الجزئية على الإطلاق وأعرب عن تقديره للفكرة ورغبته فى المساهمة في ميلادها، وللإنصاف شارك عدد غير قليل من الكتاب بمقالاتهم الصوتية فى البرنامج. وفى يوم التسجيل استقبلتُ الكاتب الساخر جلال عامر فى الإذاعة المصرية داخل أروقة ماسبيرو “ستديو 38 بالدور الرابع” ليسجل مقالاته الساخرة لإذاعتها على أثير الشبكة الرئيسية، وهو أمر ليس بالهين نظرًا لما تحمله كلماته من إسقاطات سياسية، وبعد تفاصيل الاستقبال والتقاط الصور التذكارية يجلس الأستاذ أمام الميكرفون ليبدأ فى القراءة، ولمن لا يعلم تفاصيل العمل داخل الاستديو الإذاعي، أقول إن مَن يجلس أمام الميكرفون يتحدث كما تتحدث أنت فى أي لحظة أمام صديق، لكن خارج غرفة التسجيل وبالتحديد عندي أنا كمخرج فى الكنترول رووم فإن الصوت مرتفع للغاية بسبب سماعات الصوت حتى إنه يصل إلى مسافات بعيدة، وحينما بدأ الأستاذ جلال عامر فى قراءة المقال الأول، وكان الاتفاق على تسجيل أكثر من مقال فى اللقاء الواحد، وجدتُ عدد من الزملاء يستأذن فى الدخول لمشاهدة صاحب الصوت الذى وصلهم فى الاستديوهات المجاورة، ولم ينتهى المقال الثاني حتى اكتظت غرفة الكنترول رووم، التى أجلس فيها بصحبة مهندس الصوت فقط، بالعديد من الزملاء يستمعون ويضحكون، بل ويصفقون للأستاذ، وهو ما اعتبرته نجاح للبرنامج قبل إذاعته، وانتهى الكاتب جلال عامر من مقالاته الصوتية وخرج ليجد فى انتظاره عدد كبير للتهنئة والمصافحة والتقاط الصور التذكارية. ولأننا كنا فى فترة زمنية مرتبكة بعض الشيء ملامحها غير واضحة فقد سأله زميل “مصر رايحه على فين يا أستاذ جلال؟” فأجابه بجملته الشهيرة “مش تبقى تسأل قبل ما تركب.” لتعلو ضحكاتنا جميعًا، ثم أرافقه فى طريق المغادرة على موعد بلقاء جديد بعد فترة، لكن القدر لم يترك لنا فرصة لهذا اللقاء، فقد توفي الكاتب الكبير جلال عامر في الثاني عشر من فبراير عام 2012.