رضا سُليمان يكتب | سنوحي المصري وحب الوطن
حينما قررتُ تحويل قصة سنوحي، وهى من القصص المصري القديم، إلى حلقات درامية إذاعية، كان لديَّ دافع لم أفصح عنه حينها، وهو استعراض محبة الإنسان المصري لبلده وأرضها، وأن هذه المحبة ضاربة جذورها عبر التاريخ، وهو ما يظهر جليًا في أحداث قصة “سنوحي” التى سنتعرف عليها في عجالة، وحينما بدأتُ تسجيل الحلقات بمشاركة مجموعة من النجوم، حيث جسد شخصية “سنوحي” الفنان القدير “محمود الحديني” وقامت بدور رواية القصة الفنانة القديرة وسيدة المسرح العربي سميحة أيوب، فإذا بمهندس الصوت يتوقف أمام عبارات “سنوحي” التى يتمنى فيها أن يعود إلى مصر ويُدفن فيها، ثم يخبرني، مهندس الصوت، بأنه حينما تم التعاقد معه من قِبل المطرب السعودي “محمد عبده” ليعمل كمهندس صوت في ستديو تسجيلات الأغاني الخاص به، كان طلبه الوحيد من والده قبل سفره بدقائق، أنه إذا توفي خارج مصر، فعلى والده أن يفعل المستحيل كي يستعيد جسده ويدفنه في أرض مصر.
يفصل قصة سنوحي عن قصة صديقي مهندس الصوت أربع آلاف سنة تقريبًا، لكن الانتماء وحب الوطن هو هو. الأمر الذى يعرفه كل مصري وإن كان لا يدرك تفاصيله أو أسبابه، المهم أنه عاشق لتراب هذا الوطن، ومهما كانت المغريات خارجه، وهو ما سنراه عند سنوحي، فهو في الأخير لا يتمنى أكثر من أن يعود إلى أرض مصر ويموت ويدفن فيها. قصة “سنوحي” حدثت قبل الميلاد بألفي عام، إبان الأسرة الثانية عشرة، وقد بقيت تنسخ وتُدرس في المدارس المصرية القديمة قرابة خمسة قرون.
ولأن تفاصيل القصة كثيرة وتحتوي على مراسلات وحوارات متعددة فإننا نلخصها بأن “سنوحي” كان عائدًا من غزو ضد قبائل اللوبيين (ليبيا) بقيادة ولي العهد «سنوسرت الأول»، فحدث في تلك الأثناء أن مات الملك «أمنمحات» الأول، وصل الخبر إلى «سنوسرت» فترك الجيش، وخفَّ مسرعًا إلى العاصمة ليطمئن على العرش الذي آلَ إليه، ولما سمع “سنوحي” خبر وفاة الملك أمنمحات شعر بالخوف، ولا يعرف السبب، أو لم يفصح، فما حدث أنه تخوف بشدة من الأوضاع الجديدة، فترك الحملة وفرَّ هاربًا إلى سوريا، وقد أحسن استقباله هناك أحد رؤساء القبائل، وزوَّجه بفتاة من بنات القبيلة وبنى له بيتًا؛ فأصبح رب أسرة، وصارَعَ أحد رؤساء العشائر السورية المعادية للقبيلة التى يعيش بين أولادها فصرعه، وهو الأمر الذى رفع من شأنه هناك، استقرت له الأمور وازدهرت حياته، وعُرِفَ هناك باسم “سنوحي المصري”، وبعد فترة طويلة عاوده الحنين إلى وطنه، وتاقت نفسه للرجوع إلى مصر ليكون في خدمة مولاه الملك الذي ظلَّ مخلصًا له طول حياته، وليلقى ربه، ويُدفَن في البلد الذي وُلِد فيه وترعرع، فأرسل إلى الملك المصري بما يدور في داخله رسالة طويلة حملت الكثير من المعاني الوطنية ودرس قيم في الانتماء، وكيف أنه يتألم المعيشة بعيدًا عن وطنه، ولما سمع الملك بآلامه وأحلامه عفا عنه، وأرسل إليه رسالة مفعمة بالحب وطلب منه العودة إلى الوطن “مصر” لذي يحب أولاده بقدر محبتهم له، وبالفعل يعود “سنوحي” إلى أرض مصر ويقابل الملك الذي يعيده إلى منصبه في الحكومة، ويسمح له أن يعيش معزَّزًا مكرَّمًا ليقضي ما بقي له من أيام تحت سمائه. كانت تلك إطلالة سريعة على قصة “سنوحي” كإشارة لغريزة الانتماء إلى أرض مصر وحب الوطن لدى أبناءه منذ آلاف السنين.