ريهام المهدي تكتب | الحبس الاحتياطي.. رُفعت الجلسة

0

منذ نعومة أظافرنا وكلمة الحبس الاحتياطي تتبادر علي مسامعنا من فترةٍ لأخرى، فقضية الحبس الاحتياطي ليست قضية مستحدثة أو طارئة، بل هي قضية جدلية محل خلاف قديم، والتي كانت سببًا في مطالبة الكثير من السياسيين والحقوقيين بأن يقف الحبس على كونه إجراء ولا يرتقي إلى مكانة العقوبة.

تبدأ الحكاية بنزاع يتورط فيه أحد الأشخاص ويتم توقيفه على ذمة جريمةٍ أو اتهام، ليبدأ واقعًا مبهمًا، ولا منطق له أو تبرير، هي المدة التي سيظل فيها هذا الشخص مرهونًا على ذمة التحقيق، وللأسف بعضُ القضايا قد تبدو لنا في ظاهرها بسيطًا، ولكن في حقيقة أمرها شديدة التعقيد، خاصة وإن كانت تجمع بين السياسة وحرية الرأي والتعبير، إلا أن هذا الظاهر البسيط كان سببًا وراء  العمل بقانون الحبس الاحتياطي  منذ 74 عامًا، دون تفكير في إمكانية الاستغناء عنه، الأمر الذي أفضى بأننا حتى الآن نعمل بقانون كان  يُعمل به منذ عصر النظام الملكي تم وضعه ضمن قانون 1950 التابع لدستور 1923 وقتها، صحيح أنه خضع لتعديلات خلال السنوات الماضية إلا أن المتغيرات السياسية والاقتصادية الحالية كانت تتطلب تعديلات جديدة إن لم يكن تغييرًا جذريًا له.

ليأتي  الحوار الوطني داعيًا لانعقاد جلسات رفيعة المستوى تجمع بين رجال الأحزاب والتنفيذيين ورجال وفُقهاء القانون، لبحث ثغرات هذا الملف تماشيًا مع روح القانون دون خروج على نص المادة 134 من قانون الإجراءات الجنائية، والتي تتطلب الحبس الاحتياطي في حالات محددة، بما يعني أننا واقعيًا  لو كنا بصدد متهم  لديه محل إقامة ثابت ومعلوم، ولا يخشى عليه من الهرب حال إخلاء سبيله، إضافه إلى أنه لا يستطيع التأثير أو العبث بأدلة القضية لكونها في حوزة النيابة العامة، يجب إخلاء سبيله بلا قيد أو شرط وبناء عليه لا داعي لحبسه احتياطيا بقسم الشرطة .

الحقيقة أن المشاركين في الحوار الوطني، لم يشهدوا خلافًا على وجوبية بحث الموضوع، وساد بينهم اتفاق عام أفضى إلي 24 توصيةً تم رفعها  لرئيس الجمهورية  منها 20 توصية تم الإجماع عليها، و4 فقط بدت خلافية، وإن كان هناك حلول ومقترحات بديلة لهم.

تأتي اللحظة الفارقة، اللحظة التاريخية، والتي ستشهد بها مجالس الحريات وقوانين الإنسانية، وهي لحظة توجيه الرئيس عبدالفتاح السيسي بإحالة توصيات الحوار الوطني  للحكومة، مع سرعة وضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة، استجابةً منه لمناقشات الحوار الوطني، والتي عبر عنها الرئيس عبد الفتاح السيسي بالقول: إن «استجابتي لتوصيات الحوار الوطني، نابعة من الرغبة الصادقة فى تنفيذ أحكام الدستور المصري والإستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان»، وأكد على أهمية تخفيض الحدود القصوى لمدد الحبس الاحتياطي، والحفاظ على طبيعة الحبس الاحتياطي كإجراء وقائي تستلزمه ضرورة التحقيق، دون أن يتحول لعقوبة، مع تفعيل تطبيقات بدائل الحبس الاحتياطي المختلفة، وأهمية التعويض المادى والأدبي وجبر الضرر، لمن يتعرض لحبس احتياطي خاطئ.

لتتقدم على الفور بعدها الحكومة لمجلس النواب بتعديلات على قانون الإجراءات الجنائية، متضمنة تعديل 365 مادة من أصل 461 مادة، إلا أن البرلمان اتخذ إجراءً أكثر قوة، وقرر على الفور تشكيل لجنة فرعية لإعداد مسودة لمشروع قانون جديد، كانت أبرز مواده ومحاوره هي تخفيض مدد الحبس الاحتياطي، وتنظيم التعويض عنه، وإعادة تنظيم اختصاصات وصلاحيات مأمور الضبط القضائي، بإقرار مزيد من الضمانات التزامًا بالمحددات الدستورية، أهمها الحصول على أمر قضائي مُسبب في حدود ما تقتضيه الضرورة الإجرائية، وكذلك إلغاء الباب الخاص بالإكراه البدني واستبداله بإلزام المحكوم عليه بأداء أعمال بالمنفعة العامة، مع عدم إغفال  حماية حقوق المرأة من خلال عدم تنفيذ أحكام الإعدام على المرأة المرضعة أو الحامل حتى يبلغ الصغير عامين، علاوة على تنظيم حقوق ذوي الهمم خلال مراحل التحقيق أو المحاكمة، سواء إذا كان متهمًا أو مجني عليه، إضافة إلى إلغاء باب الإكراه البدني واستبداله بأداء أعمال للمنفعة العامة.

أخيرًا، انتصرت روح القانون على صرامة وجمود نصوصه في عصر الرئيس السيسي، بمبادرة قام بها الحوار الوطني أغلق فيها سنوات من الجدل واتهامات كانت توجه لمصر على مدار عقود طويلة، لحظة انتصار للحريات ستعلن بشكل بات وقاطع لحظة انعقاد البرلمان بأكتوبر المقبل.

نجح الحوار الوطني فى بناء جسور ثقة بأن أصبح لسان حال المواطن أمام القيادة السياسية رغم ما كان يواجهه من تحديات واتهامات بالتشكيك، إلا أنه أثبت فعليًا قدرته في بحث تطوير ملفات معقدة منتهيًا فيها بحلول وتوصيات مواكبة للظروف الحالية، وبالتالي أضحى الحوار اليوم عنوان ربط بين الفكر النظري والممارسة العملية، نرى فيه تفاعلًا جادًا وممارسة تجمع بين القوي المدنية والسياسية ولا عزاء لمن فشلوا في أن يتطوروا في استيعاب تحولات اجتاحت العالم ولا أمل في تفاديها إلا بلغة حوار وتبادل في الأفكار.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.