سعود سالم يكتب | أبجدية الخيال والعلاقة بين الدين والفن

0

إن الخيال كمكون أساسي للإنسان، مثل التفكير، والإدراك الحسي، والإدراك المعنوي “اللغوي”، وكمصدر لأحد النشاطات الإنسانية المهمة “الخلق والإبداع الفني”، قد يمثل أحد المفاتيح المحتملة لفهم ظاهرة تكوين وتطور الفكر الديني عموما، والفكر الديني الإسلامي بصفة خاصة. أو على الأقل إلقاء الضوء على المجال الذي حدثت فيه القطيعة بين الشعر وبين الدين، أو المرحلة التي تحولت فيه الميثولوجيا إلى إيمان وعقيدة، رغم توحد المصدر الجغرافي والفني والثقافي والنفسي. ولعله من المهم التأكيد في هذا المجال، أنه من خلال الفكر الديني ذاته، جاءت المحاولات الأولى لتحليل البنية اللغوية للقرآن، واستنباط الأشكال الفنية التي يحتويها، ودراسة هذا النص في حدوده التاريخية واللغوية، واعتبار الخيال أحد العوامل المهمة في تركيبه، والتي أدت إلى استقباله وفهمه كلغة مجازية تصويرية. ويكفي الإطلاع على كتاب سيد قطب “التصوير الفني في القرآن”، لإدراك ما نقصد إليه في هذا المجال. حيث أن إدراك وتحليل النص القرآني كعمل إبداعي، يلعب فيه الخيال دورا أساسيا، وحيث تبدو فيه البنية المجازية كوحدة مركزية ورئيسية. “فالتصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن” حسب قول سيد قطب، حيث “الحوادث والمشاهد والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة، وفيها الحركة. فإذا أضاف إليها الحوار، فقد استوت لها كل عناصر التخيل، فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين إلى نظارة، وينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأولى الذي وقعت فيه، أو ستقع، وحيث تتوالى المناظر وتتجدد الحركات، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى، ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض، وحادث يقع..”. ويستمر سيد قطب قائلا ” فهو تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخيل. كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل، وكثيرا ما يشترك الوصف والحوار وجرس الكلمات، ونغم العبارات وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصور تتملاها العين والأذن والحس والخيال والفكر والوجدان..”.ولا شك أن مواجهة النص القرآني كعمل أدبي أو فني، وتحليله من منظور استيطيقي دون السقوط في متاهات الفكر الميتافيزيقي ـ الغيبي، يعتبر مدخلا ولو كان ضيقا لتنفس القليل من الهواء البارد، والإنفتاح على مجال عقلي يسمح بإمكانية الحوار. ورغم أن سيد قطب لم يكتب هذا الكتاب لهذا الغرض، وإنما ليؤكد على العكس من ذلك، أن هذا الجانب الفني والخيالي يضاف إلى معجزة اللغة العربية ذاتها، والتي تتخذ صفة السحرـ سحر اللغة العربية ـ كأحد الأسباب التي دفعت العرب منذ البداية لاعتناق الإسلام، رغم عدم صحة هذه الأسطورة تاريخيا، حيث لم يكن عدد الذين أسلموا نتيجة لبلاغة القرآن لا يتجاوز ٢٦٧ فردا، منهم ١٥٤ من قبيلة قريش ذاتها، وذلك في ١٣ سنة أي طوال الفترة المكية.
وسيد قطب يفصل بين طريقتين لتوصيل المعاني إلى القارئ أو المستمع:
١ـ طريقة نقل المعاني الذهنية والحالات النفسية، وإبرازها في صور حسية بواسطة الخيال.
٢ـ نقل المعاني والحالات النفسية في صورتها الذهنية التجريدية.
وسيد قطب يؤكد بأن القرآن استعمل الطريقة الأولى لتوصيل المعاني، “ولهذه الطريقة فضلها ولا شك كأداة للدعوة لكل عقيدة، ولكننا إنما ننظر إليها هنا من الوجهة الفنية البحتة. فوظيفة الفن الأولى هي إثارة الإنفعالات الوجدانية وأشاعة اللذة الفنية”. ونحن لا نشك لحظة واحدة في ضرورة دراسة البعد الفني في القرآن، وكذلك البعد الأسطوري، والبعد الشعري والخيالي. ذلك أن القصص المتراكمة في الأدب الديني منذ جلجامش والطوفان وقصص الخلق المختلفة في الكتب الدينية، لا يمكن فهمها بطريقة من الطرق، دون الأخذ في الإعتبار بأنها تنتمي إلى الإبداع الفني الفردي أو الجماعي. وبأنها تصوير أو أساطير لا علاقة لها بالأحداث التاريخية التي وقعت فعلا في زمن أو آخر. إنها صور فنية تعني بطبيعة الحال شيئا آخر غير ما تعبر عنه مباشرة، وفي هذه الحالة نجد انفسنا وسط البنية المجازية، وندخل عالم الشعر. نخرج من عالم الوقائع التاريخية الذي لم ندخله مطلقا في حقيقة الأمر. غير أننا هنا نواجه أحد هذه الجدران العالية التي لم يستطع الفكر العربي أن يتجاوزها.. جدار قدسية النص، وأولويته على أي تفكير عقلي أو حوار فكري، ذلك أن هذا النص يرفض منذ البداية علاقته بالشعر والشعراء. إن البنية المعرفية العربية قائمة على أولوية النص كثابت طبيعي مثل الصحراء والجبال والأنهار. والحقيقة المعرفية توجد ضمنا في النص على المستوى الطبيعي. في النص الشعري كتعبير عن البداهة والفطرة العربية، على المستوى الميتافيزيقي في النص الديني ـ القرآن. وهنا نكتشف أن القطيعة المزعومة بين الشعر والنص القرآني ليست قطيعة شكلية أو استيطيقية، فمن هذا الجانب ليست هناك قطيعة على الإطلاق، وإنما إستمرارية داخل نفس المساحة الفنية. ونكتشف فشل هذه المحاولة الوقائية، لأن الدين ذاته كان ملغما من الداخل باللغة الشعرية. فالدين لا يستطيع أن يحمي نفسه من الشعر دون أن يلغي نفسه كلغة أولية ودينية. والشعر من جانبه لا يستطيع أن يلغي الدين أو ينفيه من لغته المجازية ـ مهما كانت هذه البنية خاصة ومحدودة ـ دون أن تتفتت لغته وبنيته اللغوية ذاتها. الدين والشعر وجهان لعملة واحدة، عملة الخيال والخلق والإبداع الفني. ومن هذه الزاوية.. من هذه الزاوية فقط نستطيع أن نبدأ عملية النقد الحقيقية لما يمكن أن يسمي بالمعرفة الدينية والمعرفة الشعرية. فربما تمكنا بعد ذلك من فهم الأسباب التي أدت إلى غياب المعرفة التي تهمنا في هذا المقام. لأنها ربما كانت الوحيدة القادرة على فك الحصارـ أي المعرفة الفلسفية. غير أننا لا نستطيع أن نؤكد ذلك قبل تحليل ودراسة جميع الجوانب المتعلقة بالأسوار العديدة التي تشكل خارطة الحصار.. والشعر والدين معطيات أولية، وثوابت يجب أخذها كما هي ولا تسمح للنقاش والحوار والجدل، لأنها تقع خارج حدود العقل، ولا تدخل نهائيا في مجاله الضيق. غير أن هذا لا ينفي إمكانية تحليلها داخل حدودها المعرفية ـ أي الخيال ـ وذلك بواسطة منهج علمي فلسفي مناسب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.