سنية الحسيني تكتب | ماذا يجري في أمريكا؟ (1-2)

0

إن أي متابع عن كثب للأوضاع في الولايات المتحدة الأميركية الآن سوف يكتشف أنها تختلف كثيراً بعد جائحة كورونا عنها في ما قبل هذه الجائحة. ولا يقتصر هذا الاختلاف على القضايا الكبرى المتمثلة في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية والهجرة والجريمة وغيرها، وهي قضايا كانت دوماً تشغل صناع القرار والشعب الأميركي على حد سواء، بل طالت هذه الاختلافات المجتمع الأميركي بمكوناته المختلفة.
ففيما يتعلق بالقضايا والسياسات الداخلية، يشكل تراجع الاقتصاد في عهد إدارة الرئيس الحالي جو بايدن مقارنة بالوضع الاقتصادي في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب أهم الاختلافات في هذا المجال. فعلى الرغم من أن جائحة كورونا بدأت في عهد ترامب، الا أن تجلياتها وآثارها الخطيرة على الاقتصاد الأميركي ظهرت بشكل واضح في عهد بايدن. ولم تنجح إدارة بايدن حتى الآن في إعادة الحيوية والنشاط للاقتصاد الأميركي الذي أصبح يعاني من مشاكل بنيوية قد تؤثر على قدرة هذا الاقتصاد على التنافس الحقيقي مع اقتصاديات قوى عظمى أخرى.
وليس من الصعب ملاحظة ظاهرة ارتفاع أسعار المواد الغذائية والإيجارات في الولايات المتحدة اليوم خصوصاً عند اقترانها بظاهرة تأرجح قيمة الدولار. وتظهر البيانات التي نشرتها وزارة التجارة الأميركية، في شهر تموز الماضي، أن ناتج البلاد المحلي الإجمالي انخفض بنسبة 0.09٪ في الربع الثاني من هذا العام، وكان قد انخفض بنسبة 0.02٪ عن الربع السابق. وظلت التوقعات فيما يخص النمو الاقتصادي ضعيفة بشكل عام، بل هناك توقع بالمزيد من التراجع خلال الأشهر القادمة. وسجل العجز التجاري الأميركي أكبر تراجع له في عشرة أعوام خلال شهر نيسان الماضي، نتج عنه انكماش الناتج المحلي بمعدل 1.5٪ سنوياً. واعتبرت جانيت يلين وزيرة الخزانة في شهر حزيران الماضي أن الولايات المتحدة تواجه “تحديات على صعيد الاقتصاد الكلي، بما في ذلك مستويات غير مقبولة من التضخم”. ورغم وصف بايدن اقتصاد بلاده بـ “القوى” معتبراً ذلك أحد الإنجازات الرئيسة لإدارته، أكد على أن الاحتياطي الفيدرالي يعمل على خفض التضخم لمواجهة التباطؤ الاقتصادي في البلاد. وتؤدي الانكماشات الاقتصادية المتتالية إلى احتمال الوصول إلى الركود، الذي يتحدث عنه الخبراء والأكاديميون الأميركيون اليوم، متوقعين حدوثه خلال الأشهر القادمة من هذا العام.
أما على الصعيد السياسي، فقد تراجعت هيبة وصورة أميركا في العالم بعد قدوم الرئيس بايدن إلى سدة الحكم رغم محاولاته الحثيثة لاستعادة مكانتها بعد ما تعرضت له بلاده من اهتزازات في ظل ادارة الرئيس ترامب، وتصاعد ذلك التراجع بعد فشل السياسة الخارجية الأميركية في أفغانستان وانسحاب القوات الأميركية المخزي والذي اعتبر انتكاسة لمكانة أميركا في العالم. يقترن ذلك الفشل الذي لحق بالسياسة الخارجية الأميركية في أفغانستان بسياسة الولايات المتحدة في كل من العراق وسورية أيضاً، حيث لم تفلح الإدارة الأميركية الحالية في خلق حد أدنى من الاستقرار في هذين البلدين اللذين تدخلت فيهما بشكلٍ مستفز. كما فشلت الإدارة الأميركية الراهنة في إيجاد حل للملف النووي الإيراني، بعدما اعتبرت أن قرار الإدارة السابقة برئاسة ترامب بإلغاء الاتفاق لم يكن قراراً صائباً. ولم تفلح الإدارة الأميركية الحالية أيضاً في خلق مسار لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، واستمرت في تبني نفس النهج الذي رسمته وسارت فيه الإدارة السابقة.
أما الفشل الأكبر الذي مُنيت به إدارة بايدن بالمقارنة مع إدارة ترامب فهو تراجع قدرة الولايات المتحدة على الإبقاء على نظام دولي أحادي القطبية بقيادتها، عندما فشلت في وقف تطور وتمدد القوة الصينية، كقطب جديد قادم إلى الساحة الدولية. وبدلاً من التركيز على مواجهة التصاعد الصيني اختارت الولايات المتحدة الدخول في مغامرة لتدمير القوة الروسية المرشحة كذلك كي تصبح قوة قطبية أخرى في العالم كالصين. يأتي ذلك بالإضافة إلى إمكانية نشوء قوى ومحاور من دول أخرى تشكل في مجملها ما يضاهي القوى القطبية الموجودة الحالية. تقف الولايات المتحدة ضمن ذلك السياق على مفترق طرق خطير، وغير معروف بالضبط إلى أين ستؤول قوتها ونفوذها في العالم بالمقارنة مع القوى العظمى والمحاور الدولية الأخرى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.