شيماء محسب تكتب | الغزو الثقافي الصامت وفقدان الهوية

0

في ظل التحديات المتزايدة التي تواجهها مجتمعاتنا العربية، أصبح من الواضح أن التيارات الثقافية الأجنبية قد تكثفّت بشكل ملحوظ، مما يعمق محاولاتها المستمرة لطمس هوية لغتنا العربية وإضعاف ثقافتنا. تلك المحاولات لا تأتي بطرق مباشرة، بل تتخذ أشكالاً متعددة ومبتكرة تستهدف العقل والوجدان العربي بأساليب تعتمد على الذكاء الثقافي والبرمجة الاجتماعية، مما يجعلنا أحيانًا نتبنى هذه الأفكار دون وعي منا بخطورتها. إذا لم نتنبه إلى هذه الغفلة، سنجد أنفسنا مستقبلاً أمام أجيال تائهة، قد فقدت علاقتها بجذورها الثقافية واللغوية، وذابت في مجتمعات أخرى بعيدة عن هويتها الأصلية.

الناظر المتأمل في هذا الغزو الثقافي يلاحظ أنه ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل هو جزء من خطة أوسع لخلق جيل جديد لا يحمل ولاءً واضحًا لهويته الأصلية. هذا الغزو لا يعتمد فقط على اللغة والثقافة، بل يمتد ليشمل كل جوانب الحياة؛ من الفنون إلى الإعلام، من التعليم إلى التقنية الحديثة، بل وحتى في طريقة اللباس والتفكير. نحن نعيش في زمن تتداخل فيه الثقافات بشكل غير مسبوق، ولعل أخطر ما في هذا الأمر هو أن يصبح التبني غير الواعي لهذه الثقافة الأجنبية هو القاعدة، وكأن ذلك جزء طبيعي من عملية التحديث والتقدم.

لا شك أن الانفتاح على الثقافات الأخرى له فوائده، إذ يمكننا الاستفادة من تجارب الأمم المختلفة في شتى مجالات الحياة. ولكن الخطورة تكمن في التبني الأعمى لهذه الثقافات دون تصفية أو تمحيص، حيث نجد أنفسنا نستورد ليس فقط ما يناسبنا، بل أيضاً ما يتعارض مع قيمنا وأعرافنا وتقاليدنا. هذا الاستيراد الثقافي العشوائي يُنتج مجتمعات ممزقة، تعاني من أزمة هوية وفقدان للانتماء.

هنا يكمن دور المؤسسات التعليمية والثقافية في مجتمعاتنا، حيث يجب أن تكون خط الدفاع الأول في مواجهة هذا الزحف الثقافي. يجب أن تتمتع هذه المؤسسات برؤية واضحة لتعليم الأجيال الناشئة قيمهم الثقافية واللغوية بشكل يعزز هويتهم الوطنية، ويجعلهم قادرين على التفاعل مع العالم الخارجي دون أن يفقدوا هويتهم. لا يكفي أن نتحدث عن أهمية اللغة العربية والتراث الثقافي في المؤتمرات والندوات، بل يجب أن يتم دمج هذه القيم في المناهج الدراسية وفي وسائل الإعلام بشكل يومي ومستمر.

لقد تابعنا باهتمام بالغ كل ما تكتبه الأقلام الواعية والمدركة لحقيقة هذا الزحف الثقافي المبرمج، تلك الأقلام التي تدرك بعمق الأهداف الخفية وراء هذه الهجمات الثقافية. هذه الكتابات تحذر من الانجراف مع تيارات دخيلة لن تقودنا إلا إلى التخلي عن هويتنا والانفصال عن جذورنا الثقافية. إن مقاومة هذا الغزو تتطلب وعياً جماعياً يبدأ من الفرد ويمتد إلى المجتمع ككل. فلا يكفي أن نكتفي بردود الأفعال السطحية، بل يجب أن نتخذ خطوات جادة لترسيخ هويتنا العربية والحفاظ على لغتنا وثقافتنا.

في نهاية المطاف، لن يسألنا التاريخ عما استوردناه من أفكار وثقافات، بل سيسألنا عن ماذا فعلنا للحفاظ على تراثنا وهويتنا. الأجيال القادمة ستنظر إلينا بعين المحاسبة؛ هل سلمناهم ثقافة متكاملة تضمن لهم انتماءهم وهويتهم، أم أننا تركناهم في صراع لا ينتهي مع ثقافات دخيلة لا تمت إلى جذورهم بصلة؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.