في خضم التحديات المتراكبة التي تواجه المجتمعات في العصر الحديث، يظل التعليم الجيد حجر الزاوية الذي ترتكز عليه كل محاولات النهوض والتحرر من دوائر التخلف والتهميش والفقر. لم يعد التعليم ترفًا تناله فئة وتنأى عنه أخرى، بل بات ضرورة وجودية لبقاء المجتمعات على قيد الكرامة. فحينما ننظر في عمق كل مأساة اجتماعية، سنجد خيوطها تنسحب إلى غياب الوعي، وانحدار المعرفة، وندرة الفرص التي لا تُتاح إلا من خلال بوابة التعليم. وهكذا، يصبح التعليم الجيد هو مفتاح التغيير، لا على مستوى الأفراد فقط، بل على مستوى البنى الاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتية للدولة.
الفقر، في جوهره، لم يعد مجرد نقص في الموارد، بل هو نتيجة تراكمية لعوامل عدة، يأتي الجهل في صدارتها، ويُعدّ القاسم المشترك الأعظم في كل منظومة الفقر على مر العصور. الفقر اليوم لا يعني فقط العجز عن تلبية الحاجات المادية، بل يشمل أيضًا العجز المعرفي، والعزلة الثقافية، والحرمان من أدوات الارتقاء الاجتماعي. إنه حرمانٌ من الحق في الحلم، وفي السعي، وفي إعادة تشكيل المصير. ولذلك فإن العلاقة بين التعليم والفقر علاقة طردية دقيقة، كلما زادت جودة التعليم، تراجعت مؤشرات الفقر، وكلما ترسخ الجهل، تمدد الفقر بكل مظاهره.
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن القضاء على الفقر هو الهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة 2030، وهو ليس اختيارًا رمزيًا، بل إدراك لحقيقة أن الفقر هو أصل الأزمات ومصدر التهديدات، وأن محاصرته لا تتم فقط بالمساعدات، بل بالتمكين الحقيقي للأفراد، والذي لا يتحقق إلا من خلال التعليم الجيد. ووفقًا لليونسكو، فإن مجرد تمكين الأفراد من مهارات القراءة الأساسية يمكن أن يحمي أكثر من 171 مليون شخص من الوقوع في براثن الفقر المدقع، وهو رقم يكشف حجم ما يُمكن أن يفعله “الحد الأدنى من التعليم”، فكيف إذا ارتقينا إلى تعليم نوعي شامل؟
لكن المعضلة الأعمق لا تكمن فقط في غياب فرص التعليم، بل في غياب الوعي بأهميته في البيئات الفقيرة، حيث تسود ثقافة يومية تجعل من التعليم عبئًا لا استثمارًا، وتُقدّم العمل المبكر كبديل عن التعلم، وتعتبر المدارس مجرد محطة لتضييع الوقت. وتؤكد الدراسات الدولية أن أكثر من 30% من الأطفال في المجتمعات الفقيرة لا يُكملون تعليمهم حتى المرحلة الثانوية، بسبب انسحابهم المبكر إلى سوق العمل أو لاضطرارهم إلى تحمل أعباء أسرية، أو لعدم وجود دعم مؤسسي يُراعي هشاشتهم الاجتماعية.
هذه الظاهرة تخلق دوامة مفرغة: الفقر يؤدي إلى التسرب من التعليم، والتسرب يؤدي إلى جيل جديد فقير، غير مؤهل، عاجز عن اقتناص الفرص، فتتكرر المأساة في شكل دائري مَرَضي، لا ينكسر إلا بتدخل سياسي واجتماعي صارم وشامل. وهنا تبرز أهمية السياسات العامة التي تربط بين الدعم الاجتماعي للأسر وبين التزامها بتعليم أطفالها، خاصة في المراحل التأسيسية كالروضة والحضانة، باعتبارها البنية التحتية النفسية والمعرفية التي تتشكل فيها شخصية الإنسان، وتُحدد مساراته المستقبلية.
التعليم الجيد لا يعني فقط الوصول إلى المدرسة، بل يعني جودة ما يُقدَّم في الفصول، ونوعية المعلمين، ومدى ارتباط التعليم بسوق العمل واحتياجات المجتمع. فالمعلم الجاهل لا يمكنه أن ينتج إلا طالبًا هشًا، والتعليم القائم على الحفظ والتلقين لا يصنع عقولًا قادرة على التفكير النقدي والإبداع. إن تجارب الدول التي نهضت من رماد الفقر كفنلندا وسنغافورة وكوريا الجنوبية، تؤكد أن نقطة التحول الكبرى بدأت من إصلاح التعليم، وجعل مهنة التدريس مهنة للنخبة، لا للباحثين عن وظيفة فقط. التعليم ليس مجرد وسيلة لتقليل البطالة، بل هو أداة لتحرير الإنسان من التبعية، وصناعة جيل منتج فكريًا واقتصاديًا، قادر على التفكير، لا فقط على الإجابة عن أسئلة الامتحان.
وليس من المبالغة القول إن كل درهم يُنفق على التعليم الجيد هو استثمارٌ مضاعف في الصحة، والعدالة، والنمو، والابتكار، والاستقرار السياسي. فالتعليم يُقلل من معدلات الجريمة، والإدمان، والعنف المنزلي، والعنف القائم على النوع، ويُعزز قيم التسامح والمشاركة والانتماء، وهي كلها عناصر لا تقوم بها الجدران أو القوانين فقط، بل يصنعها عقل متعلم، وقلب مستنير.
إن المجتمعات التي تريد حقًا أن تكافح الفقر، لا يمكن أن تكتفي ببرامج المعونة أو مبادرات الدعم المؤقت، بل يجب أن تؤمن بأن الاستثمار في التعليم هو استثمار في كرامة الإنسان وقدرته على بناء حياته بنفسه، وليس الاتكال على الآخرين. علينا أن نعيد النظر في توزيع الموارد، وفي ترتيب الأولويات، وفي فهمنا لمفهوم “التنمية”، فالتنمية لا تبدأ من القمة، بل من القاعدة، من الطفل الذي يدخل المدرسة، من الأسرة التي تُدرك أن تعليم ابنها هو جواز سفره لمستقبل أفضل.
وفي النهاية، لن نصنع التقدم الحقيقي طالما ظل التعليم امتيازًا اجتماعيًا لا حقًا إنسانيًا، وطالما بقي أطفال الفقراء أسرى لجهل لم يختاروه، وفقر لم يصنعوه، ونظام تعليمي لا يمنحهم فرصة للنجاة. إن المعركة ضد الفقر تبدأ من المدرسة، من دفاتر التلميذ البسيطة، من احترام المعلم، ومن قناعة مجتمعية بأن التعليم الجيد ليس رفاهية، بل ضرورة بقاء. التعليم هو الجدار الأخير، الذي إن سقط، انهار كل شيء بعده